التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5430 [ ص: 534 ] 47 - باب: السحر

وقول الله تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر إلى قوله: من خلاق [البقرة: 102]. وقوله تعالى: ولا يفلح الساحر حيث أتى [طه: 69]. وقوله أفتأتون السحر وأنتم تبصرون [الأنبياء: 3]. وقوله: يخيل إليه من سحرهم [طه: 66]. وقوله: ومن شر النفاثات في العقد [الفلق: 4]، والنفاثات: السواحر. تسحرون [المؤمنون: 89]: تعمون.

5763 - حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم - أو ذات ليلة - وهو عندي، لكنه دعا ودعا ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان". فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه، فجاء فقال: "يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين". قلت: يا رسول الله، أفلا أستخرجه؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا". فأمر بها فدفنت.

تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد، عن هشام. وقال الليث وابن عيينة، عن هشام: "في مشط ومشاقة". يقال: المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة من مشاقة الكتان. [انظر: 3175 - مسلم: 2189 - فتح 10 \ 221]


[ ص: 535 ] وقول الله تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر إلى قوله: من خلاق وقوله تعالى: ولا يفلح الساحر حيث أتى وقوله: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون وقوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وقوله: ومن شر النفاثات في العقد والنفاثات: السواحر. وقوله: تسحرون : يعمون.

قلت: وحكى الثعلبي: (فأنى تسحرون): تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته.

وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار، وهو تشبيه لما وقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال عن موضعها بما يقع من المسحور، عبر عنه بذلك.

وقالت فرقة: تسحرون يمنعون .

ثم ساق حديث عيسى بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق .. الحديث بطوله.

ثم قال: تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد، عن هشام. وقال الليث وابن عيينة، عن هشام: "في مشط ومشاقة". يقال: المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة من مشاقة الكتان.

وذكر الدارقطني في "علله" من هذه المتابعات متابعة الليث وابن عيينة وأبي أسامة وأبي ضمرة، وأسند البخاري متابعة أبي أسامة قريبا في باب السحر أيضا عن عبيد بن إسماعيل عنه ، وأبي ضمرة عن

[ ص: 536 ] إبراهيم بن المثنى عنه، وابن عيينة عن عبد الله بن محمد عنه. والحديث سلف في الجهاد مع الجواب عن اعتراض الملحدين عليه. ثم السحر له حقيقة عندنا وعند مالك وأبي حنيفة، وقد يمرض من يفعل به ويموت خلافا لمن نفاه وقال: إنه تخييل وشعوذة، والحجة عليه هذه الآية; لأنه جعلهم كفرة بتعليمه، فثبت أن له حقيقة، فإذا تاب قبلت توبته عندنا، خلافا لمالك، قال: ولا يستتاب، وإن قال: تبت فلا تقبل منه، قالوا: لأنه مستسر فلم تقبل كالزنديق; ولأن علمه به وفعله له كفر عملا بالآية السالفة، فلا تكفر (أي: بتعلمه، والآلام الحاصلة بفعل الله، واعتقاد أنه من فعله وأنه قادر عليه كفر) . وبقول مالك قال أحمد، وروي قتله عن عمر وعثمان وابن عمر وحذيفة وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين.

وقال الشافعي: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره. وروي عنه أيضا أنه يسأل عن سحره، فإن كان كفرا استتيب منه. وعن مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما بذلك قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فدل على نفعه قبله، فكذا هذان. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل.

وقرأ الحسن وابن عباس: (وما أنزل على الملكين)، بكسر اللام .

[ ص: 537 ] والحديث يدل على أنهما من الملائكة، وأبعد من قال: إن (ما) في وما أنزل نافية، وهو مذهب علي بن سليمان، وقال: المعنى: وما أنزل السحر على الملكين، ويكون وما يعلمان من أحد أن يعلما ولم ينزل عليهما، ولا يصح، كما قاله الزجاج; لأن ما جاء في الحديث والتفسير في قصة الملكين أشبه.

وقال غيره: لم يتقدم أحد قال هذا، ولا ما يدل عليه فينفى، والحجة لمن قاله أن تكون الشياطين قالت ذلك.

قال أبو إسحاق: ومن جعل (ما) جحدا جعل هاروت وماروت من الشياطين وجمعا على الجنس، أو لأن التثنية جمع.

وقال الحسن: هاروت وماروت علجان من أهل بابل .

وقال علي: الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء. وعلى هذا أكثر اللغويين.

فصل:

زريق بتقديم الزاي على الراء.

وقوله: ("أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته"). أي: أجابني فيما دعوته، سمى الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب والمجيب مسعف، فاستعير أحدهما للآخر.

وقوله: ("جاءني رجلان"). أي: ملكان في صورة رجلين، وظاهره يقتضي أن يكون يقظة، وإن كان مناما فرؤياه وحي.

وقوله: ("ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه؟ ")

[ ص: 538 ] مطبوب، أي: مسحور، وطبه: سحره، وقيل: كنى عنه كما كنى عن اللديغ بسليم، قاله الفراء، وطبه بفتح الطاء وقد سلف أنه مثلث، وفي "الصحاح": والطب والطب لغتان في الطب .

وقوله: "في مشط ومشاطة". المشط بضم الميم و(سكون) الشين المعجمة وضمها وبكسر الميم وسكون الشين وممشط و(مشقأ) بالهمز وتركه ومشقاء ممدود وملد ومرجل وقيلم بفتح القاف; ذكره الزاهد في "يواقيته". والمشط: بيت صغير يقال له: مشط الذئب، والمشط: سلاميات ظهر القدم، ومشط الكتف: العظم العريض. فله عدة معان على غير الآلة المعروفة.

وقال القرطبي: ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - سحر في أحد هؤلاء الأربعة .

وقال ابن سيده في "محكمه": والمشط: سمة من سمات البعير تكون في العين والخد والفخذ، والمشط: سبحة فيها أسنان وفي وسطها هراوة يقبض عليها ويعطى بها الحب .

وأما الجف فبجيم مضمومة ثم فاء، وهذا هو المشهور. وقال أبو عمر: روي بالباء الموحدة. قال الهروي: أي: في جوفه. وقال: وجف البئر: جوانبها، وهو من أعلاها إلى أسفلها.

وقال النووي: أكثر نسخ بلادنا عليه، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعنى واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع، وإذا انشق الجف ظهر، ويطلق على الذكر والأنثى، ولهذا قيد في الحديث بقوله: ("طلعة ذكر")، بإضافة (طلعة) إلى (ذكر) .

[ ص: 539 ] وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع هو الغشاء الذي يكون عليه، وبالباء قال شمر: أراد به داخل الطلعة إذا خرج منها (الكفرى) ، كما يقال: لداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جب، وقد قيل فيه: إنه من القطع; يعني: ما قطع من قشورها ، وعبارة ابن بطال: قال المهلب : الجف: غشاء الطلع. وقال أبو عمرو الشيباني: شيء يند من جذوع النخل.

فصل:

قوله: ("في بئر ذروان"). كذا في البخاري، وفي بعض نسخه: "ذي أروان"، وهو ما في مسلم .

وقال القتبي عن الأصمعي: إنه الصواب، وهو واد بالمدينة في بني زريق من الخزرج. وفي الدعوات منه: ذروان في بني زريق . وعند الأصيلي عن أبي زيد: ذي أوان، من غير راء، وهو وهم كما قاله في "المطالع"، إنما ذو أوان موضع آخر على ساعة من المدينة، وبه بني مسجد الضرار.

وقال ابن التين : ذروان ضبط في بعض الكتب بفتح الراء، وهو الذي قرأته، وفي بعضها (بسكونها) ، وهو أشبه في العربية; لأن حروف العلة إذا تحركت وانفتح ما قبلها قلبت ألفا.

[ ص: 540 ] وفي كتاب البكري: قال القتبي: هي بئر أروان، بالهمز مكان الذال.

وقال الأصمعي: وبعضهم يخطئ فيقول: ذروان.

فصل:

قوله: (كأن ماءها نقاعة الحناء). هو بضم النون ثم قاف. والحناء ممدود جمع حناءة، ونقاعتها حمراء، أخبر - صلى الله عليه وسلم - بلون مائها.

وقال الداودي : هو الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء.

وقوله: ("كرهت أن أثور على الناس شرا"). قيل: إن السحر إذا خرج تعلمه من لا يتقي الله. وقيل: إن لبيدا منافق، فربما احتمى له قومه إن هو طولب. وقيل: إنه حليف ليهود، وهو ما في البخاري، وللنسائي: رجل من اليهود.

وقال ابن الجوزي: وهذا يدل على أنه كان أسلم وهو منافق.

قال الداودي: وفيه أنه يخشى من السحر إذا استخرج على سائر الناس، وأن دفنه يذهب مضرته. قال: وقوله: "كأن رءوس نخلها رؤوس الشياطين". يعني: أن السحر عمل في النخل حتى صار أعلاها وأعلا طلعها كأنه رؤوس دابة ذلك وهي الحيات.

وقال الفراء: في الآية من العربية ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يشبه طلعها في قبحه برؤوس الشياطين; لأنها (موصوفة) بالقبح.

[ ص: 541 ] ثانيها: أن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا، وهو معروف قبيح الوجه.

ثالثها: يقال: إنه نبت قبيح يسمى بذلك . قال غيره: وهو باليمن يقال له: (الأستن) .

فإن قلت: كيف شبه بها ونحن لم نرها؟

قلت: على من قال: هي نبت أو حيات ظاهر، وعلى الثالث أن المقصود ما وقع عليه التعارف من المعاني، فإذا قيل: فلان شيطان، فقد علم أن المعنى: أنه خبيث قبيح، والعرب إذا قبحت مذكرا شبهته بالشياطين، وإذا قبحت مؤنثا شبهته بالغول، ولم ترها.

والشيطان نونه أصلية، ويقال: زائدة.

فائدة:

قال القرطبي: هذه الأرض التي فيها النخيل والبئر خراب لا تعمر لرداءتها فبئرها معطلة ونخيلها مهملة.

أخرى:

تغير ماء البئر إما لرداءته وطول إقامته وإما لما خالطه ما ألقي فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية