التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5434 [ ص: 549 ] 51 - باب: من البيان سحر

5767 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قدم رجلان من المشرق، فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن من البيان لسحرا" أو: "إن بعض البيان لسحر". [انظر: 5146 - فتح 10 \ 237]


ذكر فيه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: قدم رجلان من المشرق، فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من البيان سحرا" أو: "إن بعض البيان لسحر".

هذا الحديث سلف في النكاح ، ولا بأس بإعادة نبذة منه، قال ابن بطال : والرجلان هما: عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر ، وقال ابن التين : أحدهما الأهتم. روى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو: "أخبرني عن الزبرقان" قال: (هو مطاع في ناديه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان) : هو والله يا رسول الله يعلم أني أفضل منه، ولكنه حسدني شرفي فقصر بي. قال عمرو: إنه لزمر المروة، لضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال، يا رسول الله صدقت في الأولى وما كذبت في الأخرى، ولكني رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت. فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن من البيان لسحرا".

[ ص: 550 ] (وقال ابن بشكوال في "غوامضه": رواه أكثر رواة "الموطأ" مرسلا ليس فيه ابن عمر . ثم قال: الرجلان: عمرو والزبرقان. ثم استشهد له من طريق الدارقطني من حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: اجتمع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميون، فقام الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيدهم والمطاع فيهم والمجاب منهم، آخذ منهم حقوقهم وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك. يعني: عمرو بن الأهتم. فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه، مطاع في (ناديه) . فقال الزبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو: أنا أحسدك؟ فوالله إنه لئيم الخال حديث المال أحمق الولد مبغض في العشيرة، والله يا رسول الله ما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت. فقال - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث) .

واختلف العلماء في تأويله، فقال قوم من أصحاب مالك: إن هذا الحديث خرج على الذم للبيان، وقالوا: على هذا يدل مذهب مالك) واستدلوا بإدخاله هذا الحديث في باب ما يكره من الكلام، وقالوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - شبه البيان بالسحر والسحر مذموم محرم قليله وكثيره، وذلك لما في البيان من التفيهق وتصوير الباطل في صورة الحق، وقد قال

[ ص: 551 ] - صلى الله عليه وسلم - "أبغضكم إلي الثرثارون والمتفيهقون" وقد فسره عامر بنحو هذا المعنى، وهو راوي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كذا قيل. وليس هو في هذا الإسناد في الباب، وكذلك فسره صعصعة بن صوحان (فقال: أما قوله "إن من البيان سحرا" فالرجل يكون عليه الحق فيسحر القوم) ببيانه، فيذهب بالحق وهو عليه.

وقال آخرون: هو كلام خرج على مدح البيان، واستدلوا بقوله في الحديث: (فعجب الناس لبيانهما). قالوا: والإعجاب لا يقع إلا بما يحسن ويطيب سماعه. قالوا: وتشبيهه بالسحر مدح له; لأن معنى السحر: الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، وكان - صلى الله عليه وسلم - أميز الناس بفصل البلاغة لبلاغته، فأعجبه ذلك القول واستحسنه، فلذلك شبهه بالسحر، قالوا: قد تكلم رجل في حاجة عند عمر بن عبد العزيز - وكان في قضائها مشقة - بكلام رقيق موجز، وتأنى لها وتلطف، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال. وكان زيد بن إياس يقول للشعبي: يا مبطل الحاجات. يعني: أنه يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حاجتهم.

وأحسن ما يقال في ذلك: أن هذا الحديث ليس بذم للبيان كله ولا بمدح للبيان كله، ألا ترى قوله: ("إن من البيان لسحرا") ومن للتبعيض، وقد شك المحدث إن كان قال: ("إن من البيان")

[ ص: 552 ] أو ("إن بعض البيان") وكيف يذم البيان كله وقد (عدد) الله به النعمة على عباده فقال: خلق الإنسان علمه البيان [الرحمن: 3، 4] ولا يجوز أن يعدد على عباده إلا ما فيه عظيم النعمة عليهم، وما ينبغي إدامة شكره عليه، فإذا ثبت أن بعض البيان هو المذموم، وهو الذي خرج عليه لفظ الحديث، وذلك الاحتجاج للشيء الواحد مرة بالفضل ومرة بالنقص، وتزيينه مرة وعيبه أخرى، ثبت أن ما جاء به من البيان مزينا الحق ومبينا له فهو ممدوح، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال، ومعنى ذلك أنه يعمل في استمالة النفوس ما يعمل السحر من استهوائها، فهو سحر على معنى التشبيه لا أنه السحر الذي هو الباطل الحرام .

وقال ابن التين : الفصاحة حسنة، وهي منحة من الله، قال - صلى الله عليه وسلم - : (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وربيت في بني سعد) وبعث عبد الملك بن مروان الشعبي إلى ملك الروم فكتب إليه: رسولك أحق بمكانك منك. فأخبر الشعبي عبد الملك فقال: لم يرك يا أمير المؤمنين. فذهب ما في نفسه وقال: حسدني فيك وأراد أن يغريني بك.

التالي السابق


الخدمات العلمية