التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5632 5977 - حدثني محمد بن الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر - أو سئل عن الكبائر - فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين". فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ - قال: "قول الزور" أو قال: "شهادة الزور".

قال شعبة: وأكثر ظني أنه قال: "شهادة الزور".
[انظر: 2653 - مسلم: 88 - فتح: 10 \ 405]


وذكر فيه ثلاثة أحاديث:

(أحدها) حديث المغيرة: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات .. " الحديث.

[ ص: 249 ] وشيخه فيه سعد بن حفص أبو محمد الطلحي مولاهم الكوفي يعرف بالضخم انفرد به البخاري عن الخمسة، وليس في شيوخهم من اسمه سعد سواه مات سنة خمس عشرة ومائتين.

ثانيها: حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - : "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ". قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". الحديث.

ثالثها: حديث أنس - رضي الله عنه - : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر فعد منها: "عقوق الوالدين".

وذكر البخاري في الأيمان والنذور حديث عبد الله بن عمر في الكبائر. وفيه: زيادة "اليمين الغموس" . وفي الديات والاعتصام حديث ابن مسعود "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" . وفيه: الزنا بحليلة الجار من الكبائر.

وروى الزنا من الكبائر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمران بن حصين وعبد الله بن أنيس وأبو هريرة.

وفي حديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" .

وفي الحدود حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "اجتنبوا السبع الموبقات". وفيه: "السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" .

[ ص: 250 ] وفي هذا الباب زيادة: "منع وهات، ووأد البنات" وفي حديث ابن عباس أن النميمة وترك التحرز من البول من الكبائر . وروى السرقة من الكبائر وشرب الخمر عمران بن حصين في غير "صحيح البخاري".

وفي البخاري: "ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة وهو مؤمن" . وفي غير البخاري من حديث ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر .

[ ص: 251 ] والقنوط من رحمة الله . وفي حديث أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : منع ابن السبيل (من الماء) من الكبائر. وروى بريدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عد ابن السبيل منها . وفي حديث ابن عمر: عد الإلحاد في البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا . وحديث عبد الله بن عمرو: "أكبر الكبائر أن يشتم الرجل والديه" قالوا: وكيف؟ قال: "يساب الرجل فيسب أباه" .

فهذه آثار رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذكر الكبائر، فجميع هذه الكبائر في هذه الآثار ست وعشرون كبيرة وهي:

الشرك، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وأن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، والزنا، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، والسرقة، وشرب الخمر، والإضرار في الوصية، والقنوط من رحمة الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد في البيت الحرام، والذي يستسب لوالديه، ومنع وهات، ووأد البنات، والنميمة، وترك التحرز من البول، والغلول.

[ ص: 252 ] فهذه ست وعشرون، وتستنبط كبائر أخر من الأحاديث منها حديث ابن المسيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه" وقد ثبت أن الربا من الكبائر كما سلف. ومنها حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - قال: "أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته" وقد ثبت أن السرقة من الكبائر.

وفي التنزيل: الجور في الحكم. قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44]، و الظالمون [المائدة: 45] و الفاسقون [المائدة: 47] فقال تعالى: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا [الجن: 15] فهذه تسع وعشرون .

قال الطبري: واختلف أهل التأويل في الكبائر التي وعد الله عباده بالنهي (عنه) ، من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين آية منها، هذا قول ابن مسعود والنخعي. وقال آخرون: الكبائر سبع، روي عن علي - رضي الله عنه - . وهو قول عبيد بن عمير، وعبيدة، وعطاء، وقال عبيد: ليس من هذه كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله، قال تعالى: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء [الحج: 31]. [ ص: 253 ] وقال تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [النساء: 10]. وقال تعالى: الذين يأكلون الربا الآية [البقرة: 275]. وقال: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات الآية [النور: 23]. وقال: إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [الأنفال: 15] والسابعة: التعرب بعد الهجرة: إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الآية [محمد: 25]. وقال آخرون: هي تسع، روي ذلك عن عبد الله بن عمر، وزاد فيه: السحر والإلحاد في المسجد الحرام. وقال آخرون: هي أربع. رواه الأعمش عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، والإياس من (رحمة) الله، والأمن من مكر الله. ففي حديث أبي الطفيل مما لم يمض في الآثار: الأمن من مكر الله. وفي حديث عبيد بن عمير: التعرب بعد الهجرة. فتمت إحدى وثلاثين.

وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: وقد ذكرت الطرفة وهي النظرة.

قال ابن الحداد: وهذا قول الخوارج، قالوا: كل ما عصي الله به فهو كبيرة يخلد صاحبه في النار. واحتجوا بقوله تعالى: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم [الجن: 23] قالوا: فالكلام على العموم في جميع المعاصي.

وعن ابن عباس قول آخر حكاه الطبري قال: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب فهو كبيرة. قال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر

[ ص: 254 ] سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب، وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار .

وذهب جماعة أهل التأويل إلى أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: معاصي الله كلها عندنا كبائر. كذا في كتاب ابن بطال . وهو محكي عن الأستاذ، قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال: الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48] واحتجوا بقراءة من قرأ: (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) على التوحيد، يعنون الشرك.

وقال الفراء: من قرأ كبائر ، فالمراد بها كبير، وكبير الإثم الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع ويراد به الواحد. قال تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين [الشعراء: 105] ولم يأتهم إلا نوح وحده، ولا أرسل إليهم رسولا قبله بدليل قوله في حديث الشفاعة: "ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" ، قالوا: فجواز العقاب عندنا على الصغيرة كجوازه على الكبيرة.

[ ص: 255 ] وقوله - عليه السلام - : "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أنها تبلغ حيث بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه" ، وحجة أهل التأويل والفقهاء ظاهر قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء: 31]. قال الطبري: يعني: نكفر عنكم أيها المؤمنون باجتناب الكبائر صغائر سيئاتكم; لأن الله قد وعد مجتنبها بتكفير ما عداها من سيئاته، ولا يخلف الميعاد ، واحتجوا بما رواه موسى بن عقبة عن عبيد الله بن سلمان الأغر عن أبيه، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة" وقال أنس - رضي الله عنه - : إن الله تجوز عما دون الكبائر فما لنا ولها، وتلا الآية.

وأما قول الفراء: من قرأ (الكبائر) فالمراد بها كبير الإثم، وهو الشرك وهو خلاف ما ثبت في الآثار، وذلك أن في حديث أبي بكرة "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" الحديث. فجعل فيه قول الزور والعقوق من أكبرها، وجعل في حديث ابن مسعود: قتل الولد خشية أن يأكل معه، والزنا بحليلة الجار من أعظم الذنوب، فهذا يرد تأويل الفراء أن كبائر يراد بها كبير وهو الشرك خاصة، ولو عكسه من قوله ، فقيل له: من

[ ص: 256 ] قرأ كبير الإثم المراد به كبائر، كان أولى في التأويل بدليل هذه الآثار الصحاح وبالمتعارف المشهور في كلام العرب وذلك أنه يأتي لفظ الواحد يراد به الجمع، كقوله تعالى: يخرجكم طفلا [غافر: 67] وقوله: لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة: 285]. والتفريق لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا. والعرب تقول: فلان كثير الدينار والدرهم يريدون الدنانير والدراهم.

وقولهم: إن الصغائر كلها كبائر دعوى، وقد ميز الله بينها وبين ما سماه سيئات من غيرها بقوله: إن تجتنبوا الآية، وأخبر أن الكبائر إذا جونبت كفر ما سواها، وما سوى الشيء هو غيره، ولا يكون هو، ولا ضد الكبائر إلا الصغائر، والصغائر معلومة عند الأمة، وهي ما أجمع المسلمون على رفع الحرج في شهادة من أتاها، ولا يخفى هذا على ذي لب.

وأما احتجاجهم بحديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة .. " إلى آخره، فلا دلالة فيه أن تلك الكلمة ليست من الكبائر.

ومعنى الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة عند السلطان يغريه بعدو له يطلب أذاه، فربما قتله السلطان أو أخذ ماله أو عاقبه أشد عقوبة، والمتكلم بها لا يعتقد أن السلطان يبلغ به كل ذلك فيسخط الله عليه إلى يوم القيامة، وهذا كقوله: وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم [النور: 15] .

[ ص: 257 ] فصل:

معنى "منع وهات": منع الواجب وأخذ ما ليس له، ("ووأد البنات") هو قتلها قال تعالى: وإذا بشر أحدهم بالأنثى [النحل: 58] وقوله: ("وقيل وقال") كذا روينا بغير صرف، ويروى بالتنوين. قال أبو (عبيد) : فيه نحوت غريبة، وذلك أنه جعل القال مصدرا كأنه قال: هو قيل، يقال: قلت قولا وقيلة وقالا. ومعناه كثير القول فيما لا يغني، وكثرة السؤال: يحتمل سؤال الناس ما في أيدي الناس، أو السؤال عما لا يغني من العلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية