التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
42 42 - حدثنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها". [ مسلم: 129 - فتح: 1 \ 100]


قال مالك : أخبرني زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار، أخبره أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخبره، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها".

حدثني إسحاق بن منصور ثنا عبد الرزاق أنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها".

[ ص: 104 ] الكلام عليهما (من وجوه):

أما حديث أبي سعيد فمن وجوه:

الأول:

هذا الحديث أخرجه هنا معلقا فإن بينه وبين مالك واسطة; لأنه لم يسمع منه، وقد وصله أبو ذر الهروي في بعض النسخ.

فقال أبو ذر: (أنا) النضروي، ثنا الحسين بن إدريس، (ثنا) هشام بن (خالد)، (ثنا) الوليد بن مسلم، (ثنا) مالك، فذكره.

وأسنده النسائي، عن أحمد بن المعلى بن يزيد، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن مالك .

وقد وصله الإسماعيلي بزيادة فيه فقال: أخبرني الحسن بن سفيان، (ثنا) حميد بن قتيبة الأسدي قال: قرأت على عبد الله بن نافع الصائغ، أن مالكا أخبره قال: (وأخبرني) عبد الله بن محمد بن مسلم، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير، نا عبد الله بن وهب، أنبأنا مالك بن أنس -واللفظ لابن نافع- [ ص: 105 ] عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحا عنه كل سيئة زلفها، ثم قيل له: ائتنف العمل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والسيئة بمثلها إلا أن يغفر الله"

أنبأنا به (غير واحد منهم) شيخنا قطب الدين الحلبي، أنبأنا محمد بن عبد المنعم المؤدب، أنبأنا أبو بكر بن باقا (أنبأنا) يحيى بن ثابت، أنبأنا أبو بكر أحمد البرقاني، أنبأنا أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي فذكره.

قال ابن بطال: هذا الحديث أسقط البخاري بعضه، وهو حديث مشهور من رواية مالك في غير "الموطأ" ونصه: "إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له بكل حسنة كان زلفها ومحا عنه كل سيئة كان زلفها" وذكر باقيه بمعناه، قال: وذكره الدارقطني في "غرائب حديث مالك " من تسعة طرق، وأثبت فيها كل ما أسقطه البخاري :

"إن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء" وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير".

[ ص: 106 ] قال: ومعنى "حسن إسلامه" ما جاء في حديث جبريل - صلى الله عليه وسلم -: "أن تعبد الله كأنك تراه". أراد مبالغة الإخلاص لله تعالى بالطاعة والمراقبة، هذا آخر كلام ابن بطال.

وقال الدارقطني في كتاب "غرائب مالك ": اتفق هؤلاء التسعة: ابن وهب، والوليد بن مسلم، وطلحة بن يحيى، ورزين بن شعيب، وإسحاق الفروي، وسعيد الزبيري، وعبد الله بن نافع، وإبراهيم بن المختار، وعبد العزيز بن يحيى، فرووه عن مالك عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد، وخالفهم معن بن عيسى فرواه عن مالك، عن زيد، عن عطاء، عن أبي هريرة .

الوجه الثاني: (في) التعريف برجاله: وقد سلف.

الثالث: في ألفاظه وأحكامه:

قوله: ("زلفها") هو بتشديد اللام كما ضبطه النووي، يقال: زلفه يزلفه تزليفا إذا قدمه، وأزلفه إزلافا مثله، ويقع في بعض النسخ: أزلفها.

قال ابن سيده: زلف الشيء وزلفه: قدمه. عن ابن الأعرابي، وأزلف الشيء: قربه.

وفي "الجامع": الزلفة تكون القربة من الخير والشر، وفي "الصحاح": الزلف: التقدم عن أبي عبيد. وتزلفوا وازدلفوا أي: تقدموا، وفي "الجمهرة": الزليف -بياء مثناة تحت قبل الفاء- ثم [ ص: 107 ] فسره بالتقدم من موضع إلى موضع. قلت: فمعنى أزلفها هنا: اكتسبها وقدمها وقربها قربة إلى الله تعالى، وازدلفت مثل أزلفت، وازدلفت القوم: (جمعتهم)، ومنه سميت المزدلفة; لجمعها الناس، وقيل: لقرب أهلها من منازلهم.

مفتعلة من زلفت أبدلت التاء دالا، وقوله تعالى: وإذا الجنة أزلفت [التكوير: 13] أي: قربت وأدنيت وأزلفنا ثم الآخرين [الشعراء: 64] أي: قربناهم.

قال أهل اللغة: هذا من باب ما جاء على فعل وأفعل لاختلاف معنى. وقوله تعالى: عندنا زلفى [سبأ: 37] فهي هنا اسم مصدر كأنه قال: ازدلافا، وأما زلف زلفى ثلاثيا فبمعنى: تقدم، والزلفة والزلفى: القربى والمنزلة.

وقوله: ("فحسن إسلامه") أي: أسلم إسلاما محققا بريئا من الشكوك، ولا يشترط في تكفير سيئات زمن الكفر وكتب حسناته أن يكثر من الطاعات في الإسلام، ويلازم المراقبة والإخلاص في أفعاله كما (سلف).

ثم اعلم أن هذا الحديث مع حديث حكيم بن حزام السالف مما اختلف في معناه، فقال أبو عبد الله المازري ثم القاضي وغيرهما: [ ص: 108 ] الجاري على القواعد والأصول أنه لا يصح من الكافر (التقرب فلا يثاب على طاعة)، ويصح أن يكون مطيعا غير متقرب (كنظيره) في الإيمان; فإنه مطيع (فيه) من حيث إنه موافق للأمر، والطاعة عندنا موافقة الأمر، ولا يكون متقربا; لأن من شرط التقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، فيتأول حديث حكيم على أنه اكتسب أخلاقا جميلة ينتفع بها في الإسلام أو أنه حصل له ثناء جميل، أو أنه يزاد في حسناته في الإسلام بسبب ذلك، أو أنه سبب لهدايته إلى الإسلام.

وتعقبهم النووي في "شرحه" فقال: هذا الذي قالوه ضعيف بل الصواب الذي عليه المحققون -وقد ادعي فيه الإجماع- أن الكافر إذا فعل (أفعالا جميلة) على جهة التقرب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم وإعتاق وضيافة ونحوها من الخصال الجميلة ثم أسلم يكتب له كل ذلك ويثاب عليه إذا مات على الإسلام.

ودليله حديث أبي سعيد السالف فهو نص صريح فيه، وحديث حكيم بن حزام ظاهر فيه، وهذا أمر لا يحيله العقل، وقد (ورد) الشرع به فوجب قبوله.

وأما دعوى: كونه مخالفا للأصول فغير مقبولة، وأما قول الفقهاء: لا تصح العبادة من كافر ولو أسلم لم يعتد بها، فمرادهم: لا يعتد بها في [ ص: 109 ] أحكام الدنيا وليس فيه تعرض لثواب الكافر، فإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة فهو مجازف، فيرد قوله بهذه السنة الصحيحة، وقد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا، فقد قال الفقهاء: إذا لزمه كفارة ظهار وغيرها فكفر في حال كفره أجزأه ذلك، وإذا أسلم لا يلزمه إعادتها.

واختلفوا فيما لو أجنب واغتسل في كفره ثم أسلم هل يلزمه إعادة الغسل؟ والأصح: اللزوم، وبالغ بعض أصحابنا فقال: يصح من كل كافر كل (طهارة) غسلا كانت أو وضوءا أو تيمما وإذا أسلم صلى بها.

ثم حديث الباب حجة لمذهب أهل الحق أن أصحاب المعاصي لا يقطع عليهم بالنار، بل هم في المشيئة، ومناسبة التبويب زيادة الحسن على الإسلام واختلاف أحواله بالنسبة إلى الأعمال.

وأما الحديث الثاني: وهو حديث أبي هريرة :

فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه مسلم مطولا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به.

ثانيها: في التعريف برجاله غير (ما) سلف.

[ ص: 110 ] أما همام فهو أبو عقبة همام بن منبه بن كامل بن سيج، بسين مهملة مفتوحة، ثم ياء مثناة تحت ساكنة، وقيل: بكسر السين وفتح الياء ثم جيم، اليماني الصنعاني الذماري، بكسر الذال المعجمة، ويقال: بفتحها، وذمار على مرحلتين من صنعاء، الأبناوي، بفتح الهمزة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون ثم ألف ثم واو.

قال أبو علي الغساني: نسبة إلى الأبناء وهم قوم باليمن من (ولد) الفرس الذين جهزهم كسرى مع سيف بن ذي يزن إلى ملك الحبشة باليمن، فغلبوا الحبشة وأقاموا باليمن، فولدهم يقال لهم: الأبناء.

وقال أبو حاتم بن حبان: كل من ولد باليمن من أولاد الفرس وليس من العرب يقال له: أبناوي وهم الأبناء.

وهمام هذا أخو وهب بن منبه وهو أكبر من وهب، سمع ابن عباس وأبا هريرة، وعنه أخوه وآخرون، وهو ثقة مات سنة إحدى، وقيل: اثنتين وثلاثين ومائة.

(فائدة):

همام بن منبه من الأفراد وإن كان في الصحابة والتابعين من يشترك معه في الاسم دون الأب.

[ ص: 111 ] فائدة أخرى:

لا يلتفت إلى تضعيف الفلاس له فإنه من فرسان الصحيحين).

وأما عبد الرزاق فهو أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم اليماني الصنعاني. سمع خلقا من الأعلام: مالكا وغيره، وعنه خلق من الأئمة والحفاظ: أحمد وابن معين وغيرهما. وأحواله ومناقبه مشهورة، مات سنة إحدى عشرة ومائتين. قال معمر: خليق أن تضرب إليه أكباد الإبل، وقال أحمد: ما رأيت أحسن منه.

وأما ابن عدي: فنقل عن ابن معين أنه ليس بقوي، وعن ابن معين أنه قيل له: تركت حديث عبد الرزاق؟ فقال: لو ارتد ما تركته.

ونسبه العباس بن عبد العظيم إلى الكذب وأن الواقدي أصدق منه، قال ابن عدي: ونسب إلى التشييع، وقد روى أحاديث في [ ص: 112 ] فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم مما لم يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما ذموه به من روايته للمناكير، وقال النسائي في "ضعفائه": فيه نظر لمن كتب عنه بآخره.

وزاد بعضهم عن النسائي : كتبت عنه أحاديث مناكير، وقال البخاري في "تاريخه الكبير": ما حدث به عبد الرزاق من كتابه فهو أصح.

وأما إسحاق بن منصور فهو أبو يعقوب إسحاق (خ، م، ت، س، ق) بن منصور بن بهرام -بكسر الموحدة- الكوسج من أهل مرو سكن نيسابور، ورحل إلى الحجاز والعراق والشام وسمع الأعلام منهم ابن عيينة، وعنه البخاري ومسلم وبقية الجماعة إلا أبا داود، وروى الترمذي أيضا عن رجل عنه في آخر "جامعه".

قال مسلم : ثقة مأمون، أحد الأئمة من أصحاب الحديث. وقال النسائي : ثقة ثبت. وقال الخطيب: كان فقيها عالما، وهو الذي دون عن أحمد وابن راهويه المسائل. مات في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين ومائتين.

[ ص: 113 ] ثالثها:

أخذ بظاهر هذا الحديث بعض العلماء وقال: التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، حكاه الماوردي عن بعضهم، والجمهور -كما حكاه النووي عنهم- (على) خلافه وهو أنه لا يقف على سبعمائة بل يضاعف الله لمن يشاء أضعافا كثيرة زائدة على ذلك، ويدل عليه ما أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، والبخاري في كتاب الرقاق من حديث ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه -عز وجل- قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة".

فقوله: "إلى أضعاف كثيرة" دال على الزيادة على (سبعمائة).

وفي كتاب "العلم" لأبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل: (نا) شيبان الأيلي، (نا) سويد بن حاتم، نا أبو العوام الجزار، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "إن الله تعالى يعطي بالحسنة ألفي ألف حسنة".

التالي السابق


الخدمات العلمية