التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5703 6050 - حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن المعرور، عن أبي ذر، قال: رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوبا آخر. فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لي: "أساببت فلانا؟". قلت: نعم. قال: "أفنلت من أمه؟". قلت: نعم. قال: " إنك امرؤ فيك جاهلية". قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن! قال: "نعم، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه". [انظر: 30 - مسلم: 1661 - فتح: 10 \ 465]


ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث أبي وائل أخرجه عن سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن منصور، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". تابعه غندر، عن شعبة.

والفسوق: الإثم، وأصله: الخروج عن طريق الحق والعدل.

ومعنى "قتاله كفر": إن استحله، وقال الداودي: إن قتاله على غير تأويل مستنكر كتأويل الخوارج فهو أعظم من ذلك، وهو مبتدع، فإن قاتله بتأويل قريب كتأويل إسلامه في وصيته فهو معذور فيه.

[ ص: 369 ] الحديث الثاني:

حديث يحيى بن يعمر، أن أبا الأسود الديلي حدثه، عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك".

و (أبو الأسود): ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، شهد صفين مع علي، وولي قضاء البصرة لابن عباس، ومات بها في الطاعون الجارف، وأول من تكلم بالنحو، هكذا سماه ابن الكلبي، وقال غيره: ظالم بن سارق، وقيل: عكسه.

و (أبو ذر): اسمه جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار.

الحديث الثالث:

حديث أنس قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا لعانا. الحديث سلف قريبا.

الرابع:

حديث ثابت بن الضحاك مرفوعا "من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال، - قال - : وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء (في الدنيا) عذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله". وفي بعض الروايات: "من حلف متعمدا" أي: حلف على وجه التعظيم.

[ ص: 370 ] ووجه الحديث الآخر: "من قال في يمينه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" إنما هو على وجه الخطأ منه، قال أبو عبد الملك: عن الداودي: من قال في شيء كان فهو على غير الإسلام إن كان ذلك ويتعمد الكذب، ويطمئن قلبه بالكفر، فهو كذلك، ومن لم يرد الكفر وحلف كاذبا فقد عظم ذنبه، وقارب الكفر. ومن حلف بذلك أن لا يفعل شيئا، أو ليفعل، فليستغفر الله.

وقوله: ("ومن لعن مؤمنا فهو كقتله") المراد أنه حرام كقتله لا أنهما سواء. قاله أبو عبد الملك. وقال الداودي: يحتمل أن يستوي إثمهما فيكون فيه القصاص والعقوبة بما جعل الله في ذلك، ولعله أن يكون بعض ذلك أشد من بعض كتفاضل القتلين.

وقوله: ("ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله") قال أبو عبد الملك: فيه مثل الأول أن كل واحد منهما حرام وليسا متساويين في الإثم، وقال الطبري: يريد في بعض معناه، لا في الإثم والعقوبة، ألا ترى أن من قتل مؤمنا عليه القود دون من لعنه فإنه الإبعاد من الرحمة والقتل إبعاد من الحياة وإعدام منها، التي بها يصير المؤمن كالبنيان، وعون بعضهم لبعض، وكذلك من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله; لما أجمع المسلمون أن لا يقتل في رميه له بالكفر، علم أن التشبيه وقع بينهما في معنى يجمعهما، وهو ما قلناه.

وقوله: ("ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة") يريد: إن أنفذ الله عليه وعيده، قال الداودي: فقد يكون من عذاب

[ ص: 371 ] يوم القيامة ما يناله من الكرب والفزع والوقوف والشمس في دنوها من الخلق وما يناله من المشقة في جواز الصراط من خدش الكلاليب، وهذا التأويل لا يصح على رواية من روى "عذب به" وهي رواية أبي ذر، والظاهر كما قال ابن التين خلاف قول الداودي; لأنه ذكر قبل هذا في البخاري: "ومن تردى من جبل، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه" .

الحديث الخامس:

حديث سليمان بن صرد - رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استب رجلان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضب أحدهما، فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجده". فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: تعوذ بالله من الشيطان. فقال: أترى بي بأسا؟ أمجنون أنا؟ اذهب.

السادس:

حديث عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبر الناس بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين. الحديث.

معنى "تلاحى": أي تنازعا، قاله الجوهري وابن فارس ، وفي المثل: من لاحاك فقد عاداك. وقال في "الغريبين" للهروي: اللحاء والملاحاة كالسباب، وقال الداودي: تماريا، ومعنى "رفعت": رفع تعيينها بسبب التلاحي عقوبة.

[ ص: 372 ] وقوله: "عسى أن يكون خيرا لكم" أي: في تغييب عينها عنكم لتجتهدوا فيها في سائر الليالي.

وقوله: ("فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة") قيل: التاسعة: ليلة إحدى وعشرين، والسابعة: ليلة ثلاث وعشرين، وهو قول مالك .

وقيل التاسعة: ليلة تسع وعشرين، والسابعة: ليلة سبع وعشرين.

الحديث السابع:

حديث أبي ذر - رضي الله عنه - مع غلامه، (فقال) : "أساببت فلانا؟ ". قلت: نعم. قال: "أفنلت من أمه؟ ". قلت: نعم. قال: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وفي أوله: عليه برد وعلى غلامه برد.

قال الداودي: البردان: رداءان أو كساءان.

وقوله: ("إنك امرؤ فيك جاهلية") أي: أنت في تعييره بأمه على خلق من أخلاقهم; لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، وفيه نزلت: ألهاكم التكاثر ولم يرد في كفرهم.

وقوله: ("فليطعمه مما يأكل") قال الداودي: (من) توجب التبعيض، وفي حديث آخر في "الصحيح": "فليجلسه معه أو ليطعمه لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه" وقيل لمالك: أيأكل الرجل من طعام لا يأكل منه عياله ورقيقه، ويلبس ثيابا لا يكسوهم؟ قال:

[ ص: 373 ] أراه من ذلك في سعة، ولكن يكسوهم ويطعمهم. قيل له: فحديث أبي ذر؟ قال: كانوا يومئذ ليس لهم هذا القوت. وقوله: ("ولا يكلفه من العمل ما (يغلبه) ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه") قال مالك: كان عمر يخرج إلى الحوائط يخفف عمن أثقل عليه من الرقيق في عمله، ويزيد في رزق من قلل رزقه، قال: وأصاب من الولاة من أمر أن يخفف عن البعير والبغل المثقلين، قال: وأكره ما أحدث من إجهاد العبيد، قال: والعمل الذي لا يتعب بالمعروف لا بأس به، إذا كان عمل يتعب بالنهار فلا يطحن بالليل.

فصل:

سباب المؤمن فسوق; لأن عرضه حرام كدمه وماله، فالمؤمن لا ينبغي أن يكون سبابا ولا لعانا، ويقتدي في ذلك بالشارع; لأن السب سبب للفرقة والبغضة، وقد من الله على المؤمنين بما جمعهم عليه من ألفة الإسلام. قال تعالى: فألف بين قلوبكم [آل عمران: 103] الآية، وقال: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات: 10] وكما لا ينبغي سب أخيه في النسب كذا في الإسلام، ولا ملاحاته، ألا ترى أن الله دفع تعيين ليلة القدر وحرمهم علمها عقوبة بتلاحي الرجال بحضرة الشارع

كما سلف.

وقوله: ("إنك امرؤ فيك جاهلية") غاية في ذمه وتقبيحه; لأن أمور الجاهلية حرام زائلة بالإسلام، وواجب على كل مسلم هجرانها واجتنابها، وكذلك الغضب هو من نزغات الشيطان فينبغي للمؤمن مغالبة نفسه عليه، والاستعاذة بالله من الشيطان فإنه دواء الغضب;

[ ص: 374 ] لقوله - عليه السلام - : ("إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجده") يعني: التعوذ بالله من الشيطان.

فصل:

وقوله ("وقتاله كفر") معناه: التحذير له من مقاتلته والتغليظ فيه، يريد أنه كالكفر فلا يقاتله، وهذا كما يقال: الفقر الموت، أي: كالموت، ونظير هذا قوله - عليه السلام - : "كفر بالله من انتفى من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف" ولم يرد أن من انتفى من نسبه أو ادعى نسبا غير نسبه كان خارجا من الإسلام، ومثله في الكلام كثير، وسلف في الإيمان في باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر زيادة في ذلك، وسيأتي شيء وسيكون لنا عودة في الكلام على حديث: "لعن

المؤمن كقتله" قريبا في باب من كفر أخاه بغير تأويل في كتاب الأيمان والنذر .

فصل:

وسلف معنى (ترب جبينه) أي: أصابه التراب، ولم يرد الدعاء على ما فسره أبو عمرو الشيباني من قوله: تربت يمينك، وسيأتي قريبا في باب قوله: تربت يمينك.

التالي السابق


الخدمات العلمية