التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5716 [ ص: 404 ] 56 - باب: قول الله - عز وجل - : إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية [النحل:90]

وقال تعالى إنما بغيكم على أنفسكم [يونس: 23] ثم بغي عليه لينصرنه الله [الحج: 60] وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر.

6063 - حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي، قالت عائشة: فقال لي ذات يوم: " يا عائشة، إن الله أفتاني في أمر استفتيته فيه، أتاني رجلان، فجلس أحدهما عند رجلي والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب - يعني: مسحورا - قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم. قال: وفيم؟ قال: في جف طلعة ذكر في مشط ومشاقة، تحت رعوفة في بئر ذروان". فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هذه البئر التي أريتها كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين، وكأن ماءها نقاعة الحناء". فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخرج. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، فهلا - تعني - تنشرت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أما الله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا". قالت: ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود. [انظر: 3175 - مسلم: 2189 - فتح: 10 \ 479]


ذكر فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه - عليه السلام - سحره لبيد بن الأعصم في مشط ومشاقة تحت راعوفة في بئر ذروان. فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخرج. فقلت: يا رسول الله، هلا تنشرت، فقال: "أما الله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا". قالت: ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود.

[ ص: 405 ] الشرح:

تأول البخاري من هذه الآيات التي ذكرها: ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، كما دل عليه حديث عائشة - رضي الله عنها - ، ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول في قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان [النحل: 90] الندب إلى الإحسان إلى المسيء، أو ترك معاقبته على إساءته. فإن قلت: فكيف يصح هذا التأويل في آيات البغي التي ذكرها؟ قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده أن البغي ينصرف على الباغي بقوله: إنما بغيكم على أنفسكم [يونس: 23] وضمن تعالى نصرة من بغي عليه بالنصرة، كان الأولى لمن بغي عليه شكر الله على ما ضمن من نصره، ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه. وكذلك فعل الشارع باليهودي الذي سحره حين عفا عنه، وقد كان له الانتقام منه بقوله: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [النحل: 126] لكن آثر الصفح عنه، عملا بقوله: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى: 43] وكذلك أخبرت عائشة عنه: أنه كان لا ينتقم لنفسه ويعفو عمن ظلمه .

وفي تفسير الآية أقوال أخر:

أحدها: أن العدل شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض، قاله ابن عباس.

ثانيها: العدل: الفرض، والإحسان: النافلة.

ثالثها: العدل: استواء السريرة والعلانية، والإحسان: أن تكون السريرة أفضل من العلانية، قاله ابن عيينة. قال ابن مسعود: وهذه

[ ص: 406 ] الآية أجمع آية في القرآن لخير أو شر. (ويمكن) أن يتخرج تأويل البخاري على هذا القول.

وقوله: وينهى عن الفحشاء والمنكر [النحل: 90] يعني: عن كل فعل أو قول قبيح. وقال ابن عباس: هو الزنا والبغي. قيل: هو الكبر والظلم. وقيل: التعدي ومجاوزة الحد .

وقال ابن عيينة: إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا [يونس: 23] المراد بها: أن البغي تعجل عقوبته لصاحبه في الدنيا، يقال: للبغي مصرعة.

(فصل:

احتج بهذه الآية من نفى دليل القرآن; لأنه تعالى فرق بين العدل والإحسان، والعدل واجب والإحسان مندوب نظيره كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام: 141] فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم [النور: 33] وذكر المالكية فيه حديث: نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن . قالوا: ومهر البغي ليس كثمن الكلب) .

فصل:

قوله: ("مطبوب") كنوا بالطب عن السحر تفاؤلا بالبرء، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. والجف بالجيم وعاء الطلع.

[ ص: 407 ] وحكى ابن التين خلافا في لبيد، فقيل: كان يهوديا، وقيل: منافقا. ورواية البخاري صريحة في الأول، وقد سلف أيضا ما فيه.

وقوله: "تحت رعوفة" قال عياض: كذا جاء في بعض روايات البخاري بغير ألف، والمعروف في اللغة الأخرى: أرعوفة أي: بالضم، وراعوفة. ويقال: راعوثة، بالثاء أيضا، وهي صخرة تترك في أصل البئر عند حفرة ناتئة ليجلس عليها منقيه والمائح متى احتاج، ومثله لأبي عبيد . وقيل: هو حجر على رأس البئر يستقي عليه المستقي. وقيل: حجر بارز من طيها يقف عليه المستقي والناظر فيها. وقيل: حجر ناتئ في بعض البئر، لم يمكن قطعه لصلابته، (فترك) .

وقوله: (فهلا تنشرت) قال الجوهري: التنشير من النشرة، وهي كالرقية، فإذا نشر المسموم فكأنما نشط من عقال، أي: يذهب عنه سريعا .

وفي الحديث: لعل طبا أصابه. يعني: سحرا. ثم نشره بـ: قل أعوذ برب الناس [الناس: 1] أي: رقاه، وكذا عند القزاز. وقال الداودي: (معناه) هلا اغتسلت ورقيت.

وظاهر الحديث أن تنشرت: أظهرت السحر، توضحه الرواية الأخرى: هلا استخرجته .

[ ص: 408 ] وروي أنه سئل عن النشرة، فقال: "هي من عمل الشيطان" .

وقال الحسن: النشرة من السحر، وهو ضرب من الرقى والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به شيئا من الجن.

وقال عياض: النشرة نوع من التطبب بالاغتسال على هيئات مخصوصة بالتجربة لا يحتملها القياس الطبي، وقد اختلف العلماء في جوازها ، وقد أسلفناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية