التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5765 6116 - حدثني يحيى بن يوسف، أخبرنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصني. قال: " لا تغضب". فردد مرارا، قال: "لا تغضب". [فتح: 10 \ 519].


ثم ذكر ثلاث أحاديث:

أحدها:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".

[ ص: 487 ] ثانيها:

حديث سليمان بن صرد - رضي الله عنه - : استب رجلان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! قال: إني لست بمجنون.

ثالثها:

حديث أبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصني. قال: "لا تغضب". فردد مرارا، قال: "لا تغضب".

الشرح:

سليمان بن صرد: هذا هو ابن الجون بن أبي الجون بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن حرام بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن لحي، واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقيا الخزاعي الكوفي أبو مطرف، أمير التوابين، قتل بالجزيرة بعين الوردة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وكان أميرا على أربعة آلاف يطلبون بدم الحسين ابن علي، أخرجوا له، وذكروه في الصحابة، وكان اسمه في الجاهلية: يسارا، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سليمان، وكان خيرا عابدا، نزل الكوفة، وهو من الأفراد ليس في الصحابة سليمان بن صرد سواه.

واختلف في كبير الإثم: فقال ابن عباس: إنه الشرك. وقال الحسن: كل ما وعد الله عليه النار. وقيل: في اللغة (ما أوعد) بدل (ما وعد). وقام الإجماع على أنه من الكبائر كالخمر.

[ ص: 488 ] والكظم في اللغة: حبس الغيظ، يقال: كظم البعير على جرته إذا رددها في حلقه .

والصرعة - بضم الصاد وفتح الراء - : الذي يصرع الرجال ، والهاء للمبالغة مثل ضحكة ولعبة.

قال ابن التين: وكذا قرأناه، وضبط في الكتب بإسكان الراء وليس بشيء; لأنه بالسكون: الضعيف المصروع، وليس مراده هنا، وإنما يريد من يغلب الناس ويصرعهم. وضبط في بعضها بفتح الصاد وليس بشيء أيضا.

وقوله: (إني لست بمجنون). إما أن يكون منافقا أو نفر من كلام أصحابه دون كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله: ("لا تغضب") معناه: أن يحذر أسباب الغضب، ولا يتعرض للأمور الجالبة للضرر فيغضبه.

فأما نفس الغضب فطبع لا يمكن إزالته من الجبلة. وقيل معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب وقيل: أعظم أسباب الغضب الكبر عندما يخالف أمرا يريده، فيحمله الكبر على الغضب لذلك، فإذا تواضع ذهبت عنه غيرة النفس. فسلم بإذن الله تعالى من شره.

ولأبي داود من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" .

[ ص: 489 ] وجمع له - عليه السلام - في قوله: ("لا تغضب") جوامع خير الدنيا والآخرة; لأن الغضب يئول إلى التقاطع، ومنع ذي الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي فينقص لذلك دينه.

وفي "الموطأ": قال رجل: يا رسول الله، كلمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى قال: "لا تغضب" .

وذكر الهروي أن في الحديث: "الحدة تعتري خيار أمتي" . وفي آخر: "خيار أمتي أحداؤها" . جمع حديد. قال: وفيه حدة. قلت: ومدح الله الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أن ما عنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك.

[ ص: 490 ] وقد روى (معاذ بن جبل) - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله - عز وجل - على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور يشاء". (أخرجه أحمد من رواية معاذ بن أنس بإسناد ضعيف . وأخرجه من وجه آخر بهذه الطريق أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن غريب) .

وأراد - عليه السلام - بقوله: ("ليس الشديد بالصرعة") أن الذي يقوى على ملك نفسه عند الغضب، ويردها عنه هو القوي الشديد، والنهاية في الشدة; لغلبته هواه المردي الذي زينه له الشيطان المغوي، فدل هذا على أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو; لأن النبي - عليه السلام - جعل للذي يملك نفسه عند الغضب من القوة، والشدة ما ليس للذي يغلب الناس; من هذا الحديث قال الحسن البصري حين سئل أي الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك.

وفي حديث سليمان بن صرد أن الاستعاذة بالله من الشيطان تذهب الغضب; وذلك أن الشيطان هو الذي يزين للإنسان الغضب، وكل ما لا تحمد عاقبته; ليرديه ويغويه ويبعده من رضا الله تعالى، فالاستعاذة بالله منه من أقوى السلاح على دفع كيده.

وفي أبي داود من حديث عطية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار

[ ص: 491 ] بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"
وفيه أيضا من حديث أبي ذر مرفوعا: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغيظ وإلا اضطجع" . وفيه انقطاع، وصححه ابن حبان . وقال أبو الدرداء: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب. وفي الكتب قال الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت. وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا (نار) الغضب بذكر نار جهنم .

التالي السابق


الخدمات العلمية