التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5768 6119 - حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن مولى أنس - قال أبو عبد الله: اسمه عبد الله بن أبي عتبة - سمعت أبا سعيد يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها. [انظر: 3562 - مسلم: 232 - فتح: 10 \ 521].


ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي السوار العدوي واسمه حسان بن حريث قال: سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحياء لا يأتي إلا بخير". فقال بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارا، وإن من الحياء سكينة. فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتحدثني عن صحيفتك.

[ ص: 493 ] ثانيها:

حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو يعاتب في الحياء يقول: إنك لتستحيي. حتى كأنه يقول: قد أضر بك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعه، فإن الحياء من الإيمان".

ثالثها:

حديث قتادة، عن مولى أنس سمعت أبا سعيد يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها.

الشرح:

(حديث ابن عمر سلف في الإيمان، وحديث أبى سعيد سلف قريبا) .

وأبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري.

ومولى أنس هذا هو عبد الله بن أبي عتبة. وقال الفربري عن البخاري: اسمه عبد الرحمن بن أبي عتبة. وفي نسخة النسفي عن الفربري: عبد الله كما قدمناه ، وهو الصواب، كما قاله الجياني . وكذا ذكره البخاري في كتاب الأدب، وكذا الكلاباذي ، واقتصر عليه الدمياطي فيما كتبه بخطه. ونقل بشير هو معنى الحديث، وإنما أراد عمران أن إسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى; لأن بشيرا حدثه عن صحيفته، وعمران عن الشارع.

[ ص: 494 ] وهذا أصل أن الحجة إنما هي في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا فيما يروى عن كتب الحكمة; لأنه لا يدرى ما حقيقتها، وهو بمعنى الحديث.

وفي رواية عن بشير أنه قال: إن من الحياء ضعفا، وعلى هذا يكون غضب عمران أوكد; لمخالفته لقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير"; ولقوله للذي كان يقول لصاحبه: إنك لتستحي حتى أضر بك الحياء: "دعه; فإن الحياء من الإيمان". فدلت هذه الآثار أن الحياء ليس بضار في حالة من الأحوال، ولا بمذموم.

والحياء ممدود.

وقوله: ("إن الحياء من الإيمان") أي: من كماله، قاله أبو عبد الملك، وقال الهروي: جعل الحياء - وهو غريزة - من الإيمان وهو الاكتساب; لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن له نية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبينها.

وقوله: (إنك لتستحي). قال ابن التين: هذا من استحيا بياء واحدة. قال الجوهري: أصله استحييت (فأعلوا) الياء الأولى، وألقوا حركتها على الحاء فقالوا: استحيت (استثقالا لما دخلت) عليها الزوائد. وقال سيبويه: حذفت لالتقاء الساكنين; لأن الياء في الأولى تقلب ألفا; لتحركها قال: وإنما فعلوا ذلك; حيث كثر في كلامهم . وقال المازني: لم تحذف لالتقاء الساكنين; لأنها لو حذفت لذلك لردوها إذا قالوا: هو يستحي لقالوا: هو يستحيي.

[ ص: 495 ] وقال الأخفش: استحى بياء واحدة لغة تميم، وبياءين لغة أهل الحجاز. وهو الأصل; لأن ما كان موضع لامه معتلا لم يعلوا عينه، وإنما حذفوا الياء; لكثرة استعمالهم لها.

فصل:

ومعنى: ("الحياء لا يأتي إلا بخير") أن من استحى من الناس أن يروه يأتي الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه - عز وجل - ، ومن استحى ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه; لأن كل ذي فطرة يعلم أن الله النافع له والضار والرزاق والمحيي والمميت، وإذا علم ذلك فينبغي له أن يستحي منه تعالى وهو قوله - عليه السلام - : "دعه; فإن الحياء من الإيمان" أي: من أسبابه وأخلاق أهله، وذلك أنه لما كان الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على البر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور، ويبعده عن المعاصي، ويحمله على الطاعات، صار كالإيمان; لمساواته له في ذلك، وإن كان الحياء غريزة، والإيمان فعل المؤمن كما سلف فأشبهها من هذه الجهة، وقد سلف هذا المعنى في كتاب الإيمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية