التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
530 555 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". [3233، 7429، 7486 - مسلم: 632 - فتح: 2 \ 33]


ذكر فيه حديثين:

أحدهما: حديث جرير بن عبد الله: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا". ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ق: 39]. قال إسماعيل - يعني: ابن أبي خالد الراوي عن قيس، عن جرير - افعلوا لا تفوتنكم.

[ ص: 188 ] الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا، (وكرره) البخاري قريبا في باب فضل صلاة الفجر، ويأتي في التفسير والتوحيد أيضا.

وأخرجه والأربعة أيضا، وطرقه الدارقطني في "علله".

ولفظ البخاري في التوحيد: "إنكم سترون ربكم عيانا"، وفي التفسير: فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة وفي آخر قريبا: "لا تضامون" أو قال: "لا تضاهون في رؤيته".

وعند اللالكائي عن البخاري: "إنكم ستعرضون على ربكم وترونه كما ترون هذا القمر".

وعند مسلم: ثم قرأ جرير: فسبح بحمد ربك الآية. وله:

[ ص: 189 ] "فيتجلى لهم الرب تعالى".

وعن صهيب عند مسلم: "فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه".

ثانيها:

تظاهرت الأخبار والقرآن وإجماع الصحابة فمن بعدهم على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو من عشرين صحابيا كما ذكره النووي.

[ ص: 190 ] وأنت إذا تأملت ما ذكره اللالكائي، والآجري في "الشريعة"، وأبو الشيخ في "السنة الواضحة"، وأبو نعيم زاد على العشرين.

وقد صرح بذلك ابن التين في شرحه، وهي مختصة بالمؤمنين ممنوعة من الكفار.

وفي "سنن اللالكائي" من حديث أنس وأبي بن كعب وكعب بن عجرة: سئل رسول - صلى الله عليه وسلم - عن الزيادة في كتاب الله تعالى، قال: "النظر إلى وجهه" وعن ابن عمر: "من أهل الجنة من ينظر إلى وجهه تعالى غدوة وعشية".

ومن حديث أبي عبيدة عن أبيه وذكر الموقف فيتجلى لهم ربهم.

وأبعد من قال: يراه المنافقون أيضا.

[ ص: 191 ] ....................

[ ص: 192 ] ومنع من ذلك المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة بناء على أن الرؤية تلزمها شروط عقلية اعتقدوها، وأهل السنة لا يشترطون شيئا من ذلك ومحل الخوض في ذلك أصول الديانات.

ثالثها:

قوله: "لا تضامون" هو بضم التاء المثناة فوق مع تخفيف الميم، وعليها أكثر الرواة كما قال ابن الجوزي.

والمعنى: لا ينالكم ضيم. والضيم أصله الظلم. وهذا الضيم يلحق الرائي من وجهين:

أحدهما: من مزاحمة الناظرين له، أي: لا تزدحمون في رؤيته، فيراه بعضكم دون بعض، ولا يظلم بعضكم بعضا.

والثاني: من تأخره عن مقام الناظر المحقق، وكأن المتقدمين ضاموه. ورؤية الرب جل جلاله يستوي فيها الكل بلا ضيم ولا ضرر ولا مشقة.

ورواية البخاري التي أسلفناها: "لا تضامون" أو "لا تضاهون" على الشك، أي: لا يشتبه عليكم وترتابون فيعارض بعضكم بعضا في رؤيتي.

وقيل: لا يشبهونه بغيره من المرئيات تقدس وتعالى. وروي "تضامون" بضم وتشديد الميم، وروي بفتح التاء وتشديد الميم، حكاهما الزجاج فيما حكاه ابن الجوزي.

وقال: المعنى فيهما لا تضاممون. أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض في وقت النظر؛ لإشكاله وخفائه، كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.

وروي "تضارون" بالراء المشددة والتاء مضمومة ومفتوحة ذكرهما الزجاج أيضا. والمعنى: لا تضارون أي: لا يضار بعضكم بعضا [ ص: 193 ] بالمخالفة. قال ابن الأنباري: هو يتفاعلون. من الضرار أي: لا يتنازعون ويختلفون.

وروي "تضارون" بضم التاء وتخفيف الراء أي: لا يقع بكم في رؤيته ضير ما بالمخالفة والمنازعة أو الخفاء المرئي. وروي "تمارون" مخفف الراء، أي: تجادلون، أي: لا يدخلكم شك.

رابعها:

قوله: ("فإن استطعتم أن لا تغلبوا") أي: لا يغلبكم عليها أحد.

وقول إسماعيل: افعلوا لا تفوتنكم. زاد أبو نعيم في قول إسماعيل هذا: قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب.

وقال المهلب: "إن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة" يعني: شهودها في الجماعة، وخص هذين الموقتين؛ لاجتماع الملائكة فيهما؛ ورفع أعمالهم فيها لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم، والصلاتان: الفجر والعصر.

وقوله: (ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) [ق: 39] وقد أسلفت لك أن جريرا قرأه من عند مسلم. وقال شيخنا قطب الدين: لم يبين أحد في روايته من قرأ.

ثم ساق من طريق أبي نعيم في "مستخرجه" أن جريرا قرأه. وقد: علمت أنه في مسلم فلا حاجة إلى عزوه إلى "مستخرجه". قالوا: وجه مناسبة ذكر الرؤية والصلاتين أن الصلاتين من أفضل القرب، فإنه قال تعالى في صلاة الفجر: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا

[ ص: 194 ] [الإسراء: 78] وصلاة العصر هي الوسطى على الصحيح، وكأنه يقول: دوموا على أفضل القرب تنالوا أفضل العطايا وهو الرؤية، فإن بالمحافظة يتحقق الإيمان. والتسبيح في الآية: الصلاة.

الحديث الثاني: حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة... " الحديث.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد.

وأخرجه مسلم أيضا. وفي رواية لأبي القاسم الجوذي في آخره: فحسبت أنهم يقولون: فاغفر لهم يوم الدين.

ثانيها:

قوله: "يتعاقبون" فيه دلالة لمن قال من النحاة بجواز إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدم، وهو لغة فاشية، وحمل عليه الأخفش ومن وافقه قوله تعالى: وأسروا النجوى الذين ظلموا [الأنبياء: 3] وسيأتي في ذكر الملائكة "يتعاقبون".

وقال سيبويه والأكثرون: لا يجوز إظهار الضمير مع تقدم الفعل، يتأولون ما خالفهم ويجعلون الاسم بعده بدلا من الضمير، ولا يرفعونه بالفعل، وكأنه لما قيل: وأسروا النجوى [الأنبياء: 3] قيل: من هم؟ قيل: هم الذين ظلموا، وكذا: "يتعاقبون" ونظائره.

[ ص: 195 ] ومعنى "يتعاقبون": تأتي طائفة بعد طائفة، ومنه تعقيب الجيوش، وهو: أن يذهب قوم ويجيء آخرون.

ثالثها:

اجتماعهم في الفجر والعصر فهو من لطف الله بعباده المؤمنين ومكرمته لهم أن جعل اجتماع الملائكة عندهم ومفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم واجتماعهم على طاعة ربهم، فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير.

وقال ابن حبان في "صحيحه": فيه بيان أن ملائكة الليل إنما تنزل والناس في العصر، وحينئذ تصعد ملائكة النهار ضد قول من زعم أن ملائكة الليل تنزل بعد الغروب.

رابعها:

هؤلاء الملائكة هم الحفظة عند الأكثرين، وحينئذ فسؤال الله لهم بقوله: "كيف تركتم عبادي؟ " إنما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكتبه إياها عليهم، ويحتمل أن يكونوا غيرهم، فسؤاله لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال: أتجعل فيها من يفسد فيها [البقرة: 30] وإظهار لما سبق من علمه إذ قال لهم: إني أعلم ما لا تعلمون [البقرة: 30]، وهذه حكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين، أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادته لهم، ولذلك قالوا: "أتيناهم وهم يصلون" إلى آخره، وهذا من خفي لطفه وجميل ستره، إذ لم يطلعهم [ ص: 196 ] إلا على حال عبادتهم ولم يطلعهم على حال شهواتهم ولا خلواتهم ولذاتهم وانهماكهم في معاصيهم وشهواتهم، فسبحانه من كريم إذ ستر القبيح وأظهر الجميل.

التالي السابق


الخدمات العلمية