التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6212 - حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة قال: حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: كان بالمدينة فزع، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا لأبي طلحة فقال: " ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا". [انظر: 2627 - مسلم: 2307 - فتح: 10 \ 594]


ثم ساق حديث أنس - رضي الله عنه - : "ويحك ارفق بالقوارير".

وفي رواية: "رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير". قال أبو قلابة: يعني ضعفة النساء.

[ ص: 636 ] وفي رواية: "لا تكسر القوارير".

وحديثه أيضا: كان بالمدينة فزع، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا لأبي طلحة فقال: "ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا".

الشرح:

(المعاريض): كذا هو في الأصول، وكذا أورده ابن بطال، وأما ابن التين فأورده بلفظ: المعارض، ثم قال: كذا التبويب، والصواب: المعاريض، كما في رواية أبي ذر. وهي من التعريض الذي هو خلاف التصريح، وهو التورية بالشيء عن الشيء.

ومعنى: مندوحة: متسع، يقال منه: انتدح فلان بكذا ينتدح به انتداحا; إذا اتسع به.

وقال ابن الأنباري: يقال: ندحت الشيء: وسعته.

قال الطبري: ويقال: انتدحت الغنم في مرابضها إذا (تبغددت) واتسعت من البطنة. وانتدح بطن فلان واندحى: يعني: استرخى (واتسع) .

قلت: فالحاصل أن هذه اللفظة ترجع إلى الفسحة والسعة، أي: فيما يستغني به الرجل عند الاضطرار إلى الكذب. وهذه الترجمة ذكرها الطبري بإسناد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب .

[ ص: 637 ] وقال الهروي: إنه في حديث عمران بن الحصين .

وقوله: (وظن أنها صادقة). أي: بما ورت به من استراحة الحياة وهدوء النفس من تعب العلة، وهي صادقة في الذي قصدته. ولم تكن صادقة فيما ظنه أبو طلحة، وفهمه من ظاهر كلامها، ومثل هذا لا يسمى كذبا على الحقيقة.

وقوله في النساء "القوارير" شبههن بها; لأنهن عند حركة الإبل بالحداء وزيادة مشيها به، يخاف عليهن السقوط فيحدث لهن ما يحدث بالقوارير من التكسر. وكذلك قوله: "إنه لبحر". شبه جريه بالبحر الذي لا ينقطع، أي: واسع الجري واسمه مندوب.

فهذا كله أصل في جواز المعاريض واستعمالها فيما يحل ويحرم، ونحو هذا ما روي عن ابن سيرين أنه قال: كان رجل من باهل عيونا فرأى بغلة شريح فأعجبته، فقال له شريح: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام. يعني أن الله تعالى هو الذي يقيمها بقدرته. فقال الرجل: أف أف. يعني: استصغرها. والأف تقال للنتن.

[ ص: 638 ] وذكر الطبري عن الثوري في الرجل يزوره إخوانه وهو صائم، فيكره أن يعلموا بصومه، وهو يحب أن يطعموا عنده، فأي ذلك أفضل؛ ترك ذلك أو إطعامهم؟ قال: إطعامهم أحب إلي، وإن شاء قام عليهم. وقال: قد أصبت من الطعام، ويقول: قد تغديت. يعني: أمس أو قبل ذلك .

وروي عن النخعي أنه كان إذا كره أن يخرج إلى الرجل جلس في مسجد بيته ويقول للخادم: قولي له: هو في المسجد. وقال ابن حبيب: ما كان منها على وجه العذر أو لحياء من سخط أخيك لما بلغه عنك، ونحوه فلا بأس. وحكى عن مالك أنه لا يحب فعل ذلك.

وقال بعض العلماء: المعاريض شيء يتخلص الرجل بها من الحرام إلى الحلال، فيتحيل بها، وإنما يكره أن يحتال في حق فيبطله أو في باطل حتى يموهه ويشتبه أمره، وقد قال إبراهيم النخعي ومالك: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوما، وإن كان ظالما فعلى نية المحلوف له.

وفي كتاب ابن حبيب فيمن ألغز في يمينه فما كان في خديعة لنفر من حق عليه فهو آثم، ولا يكفر ولا يأثم في غير ذلك ولا كفارة، ولا أحب له أن يفعل، فجعل الأمر إلى نية الحالف، وإن كان في حق، وقد رخص - عليه السلام - في الكذب في ثلاث: إصلاح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب .

فمما يجوز فيه المعاريض: ما روي عن عقبة بن العيزار أنه قال: كنا [ ص: 639 ] نأتي إبراهيم النخعي وكان مختفيا من الحجاج، فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا: إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا، ولا لنا به علم، ولا في أي موضع هو، واعنوا أنكم لا تدرون في أي موضع أنا فيه قاعد أو قائم، فتكونون قد صدقتم.

قال عقبة: وأتاه رجل فقال: إني آت الديوان، وإني اعترضت على دابة وقد نفقت، وهم يريدون أن يحلفوني بالله أنها هذه التي اعترضت عليها، فكيف أحلف؟ قال إبراهيم: اركب دابة واعترض عليها. يعني: يظنك راكبا ثم احلف بالله أنها الدابة التي اعترضت تعني بظنك.

وعاتبت إبراهيم النخعي امرأته في جارية له وبيده مروحة فقال: أشهدتكم أنها لها. وأشار بالمروحة، فلما خرجنا من عنده فقال: على أي شيء أشهدتكم؟ قالوا: على الجارية. قال: ألم تروني أشير بالمروحة .

وسئل النخعي عن رجل مر بعشار فادعى حقا فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله ما له عندك شيء، واعن مسجد حيك. وقال رجل لإبراهيم: إن السلطان أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ قال: قل: والله ما أبصر إلا ما سددني غيري. يعني: إلا ما بصرني ربي .

وفي الباب تأليف مفرد لابن دريد (سماه "الملاحن"، فمنه: والله ما سألت فلانا وما رأيت فلانا ولا كلمته. أي: ما ضربت رئته وما جرحته.

[ ص: 640 ] وبطنت فلانا: ضربت بطنه. وما أعلمته ولا أعلمني. أي: ما جعلته أعلم، أي: ما شققت شفته العليا. وذكر فيه ألفاظا أخر كثيرة) .

التالي السابق


الخدمات العلمية