التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
5946 6305 - وقال لي خليفة: قال معتمر: سمعت أبي، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل نبي سأل سؤلا -أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها- فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". [مسلم: 200 - فتح: 11 \ 96]


حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل نبي دعوة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة"

وقال لي خليفة: قال معتمر: سمعت أبي، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل نبي سأل سؤلا -أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها-

[ ص: 176 ] فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".


هذا الباب ذكره ابن بطال في أواخر (شرحه) بعد الفتن، -ولا أدري لم فعل ذلك - ومعنى الآية: إن شئت (فضلا مني) كقوله تعالى: فيكشف ما تدعون إليه إن شاء [الأنعام: 41].

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ليس من عبد يدعو الله إلا استجاب له، وإن كان الذي دعا به رزقا له في الدنيا، أعطاه إياه، وإن لم يكن له رزقا في الدنيا ادخر له.

وروي: "ما من داع يدعو الله إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له; يعطى ما سأل، أو يصرف عنه به، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه به".

ومعنى داخرين: أذلاء صاغرين.

ثم قال البخاري: ولكل نبي دعوة مستجابة. ثم ساق من حديث الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل نبي دعوة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة".

وقال معتمر: سمعت أبي عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل نبي سأل سؤالا -أو قال- لكل نبي دعوة قد دعاها فاستجيبت فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

[ ص: 177 ] الشرح:

هذا التعليق أخرجه مسلم (في الإيمان) من حديث محمد بن العلاء، ثنا المعتمر به، وعنده في حديث أبي هريرة "وأردت إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وفي رواية: "فتعجل كل نبي دعوته، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا"، وفي رواية: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب فيؤتاها وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" (وفي رواية): "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب، وأريد أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

وهذا من حسن نظره - عليه أفضل الصلاة والسلام -; حيث اختار أن تكون دعوته فيما ينبغي، ومن فضل كرمه أن جعلها لأمته شفاعة للمذنبين، فكأنه - عليه السلام - هيأ النجائب للمنقطعين; ليلحقهم بالسابقين. نبه عليه ابن الجوزي.

وقوله: ("دعا بها في أمته") يحتمل وجهين: أن يكون دعا بها لنفسه. وهو فيهم، أو دعا بها فيهم إما لصلاحهم، أو لهلاكهم.

[ ص: 178 ] ومعنى: "لكل نبي دعوة" أي: أفضل دعائه، وكذا قوله: (كل نبي سأل سؤالا". والسؤال: ما يسأله المرء، قال تعالى: قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه: 36] قرئ بالهمز وتركه. ولهم دعوات غير ذلك: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سأل ألا تهلك أمته بالسنين فأعطيها، وسأل ألا يسلط عليهم عدوهم، وسأل ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعها، وجعل بأسهم بينهم كفارات.

وقوله: " (لكل نبي دعوة مستجابة") هذه دعوة تخص كل نبي لدنياه، مثل قول نوح - عليه السلام -: لا تذر على الأرض [نوح: 26]، ومثل قولة زكريا - عليه السلام -: فهب لي من لدنك وليا [مريم: 5]، ومثل قول سليمان: وهب لي ملكا [ص: 35] فاختباؤه - عليه السلام - دعوته لأمته; رأفة بهم ورحمة عليهم لوقت شدتهم واحتياجهم وانقطاع أعمالهم، قال عمر بن عبد العزيز: لأنا أخوف من أن أحرم الدعاء من أن أمنع الإجابة. وقال ابن عيينة: لو يسر كفار جهنم إلى الدعاء بالخروج لخرجوا، ولكنهم إنما نادوا يا مالك ليقض علينا ربك [الزخرف: 77] وقالوا: ربنا أخرجنا الآية [المؤمنون: 107] وقد علم سبحانه أنهم سيعودون لو أخرجوا، فلو لم يشترطوا أنهم لا يعودون وأخلصوا الدعاء لخرجوا.

فصل:

أمر الله عباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة في الآية المذكورة. وقيل: المعنى ادعوني بطاعتكم إياي، أستجب لكم في الذي التمستم مني بعبادتكم إياي، ومن طاعة العبد ربه دعاؤه إياه، ورغبته في حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرع إليه في حاجته،

[ ص: 179 ] موقن أن قضاءها بيده، مفترض لعجزها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها. وقد روي عن وكيع، عن سفيان، عن صالح -مولى التوأمة- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع الله غضب (الله) عليه".

وروى شعبة، عن منصور، عن ذر، عن يسيع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء هو العبادة" وقرأ: ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي [غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة. وروى الأوزاعي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، أنه - عليه السلام - قال: "إن الله يحب الملحين في الدعاء".

[ ص: 180 ] فإن قلت: قول أبي الدرداء: يكفي من الدعاء مع العمل ما يكفي من الطعام مع الملح. وقيل لسفيان: ادع الله. قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء، مخالف لما جاء في فضل الإلحاح في الدعاء، والأمر بالدعاء والضراعة إلى الله.

قلت: لا; لأن الذي جبلت عليه النفوس، أن من طلب حاجة ممن هو ساخط عليه لأمر تقدم منه، استوجب به سخطه، أنه بالحرمان أولى، ممن هو عنه راض لطاعته له واجتنابه سخطه فإذا علم من عبده المطيع له حاجة إليه، كفاه اليسير من الدعاء.

فإن قلت: فما علامة الإجابة؟

قلت: روى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، إن شفق المؤمن في قلبه كسعفة أحرقتها في النار، ثم قالت: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت: نعم قالت: فادع الله; فإن الدعاء يستجاب عند ذلك. وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير أنه سمع أبا رهم السماعي يقول: ما يشعر به عند الدعاء العطاس.

فصل:

فإن قلت: ما معنى قوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" وقد قال تعالى للناس كافة: ادعوني أستجب لكم [غافر: 60] فعم كل الدعاء، وهذا وعد من الله لعباده وهو لا يخلف الميعاد، وإنما خص كل نبي بدعوة واحدة مستجابة فأين فضل درجة النبوة. قيل: ليس الأمر كما ظننت ولا تدل الآية على أن كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة: إنما يستجاب من الدعاء ما وافق القدر. وليس الحديث مما يدل أنه

[ ص: 181 ] لا يستجاب للأنبياء إلا دعوة واحدة، وقد أجيبت لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوات بأسانيد ثابتة كما سلف، ومنها دعاؤه على المشركين بسبع كسبع يوسف، ودعاؤه على صناديد قريش المعاندين له فقتلوا يوم بدر، وغير ذلك مما يكثر إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه رد من دعائه إلا سؤاله ألا يجعل (الله تعالى) بأس أمته بينهم خاصة كما سلف; لما سبق في أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد [البقرة: 253].

فصل:

قد سلف معنى قوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" وعبارة ابن بطال: يريد أن لكل نبي دعوة عند الله من رفيع الدرجة، وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحب من الأمور، ويبلغه أمنيته فيدعو في ذلك وهو عالم بالإجابة، على ما ثبت عنه أن جبريل قال: "يا محمد إن أردت أن يحول الله لك جبال تهامة ذهبا فعل"، وخيره الله بين أن يكون نبيا عبدا، ونبيا ملكا، فاختار الآخرة على الدنيا، وليست هذه (الدرجة) لأحد من الناس، وإنما أمرنا بالدعاء راجين الإجابة (غير) قاطعين عليها ليقفوا (بين) الرجاء والخوف.

[ ص: 182 ] فصل:

وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- حين آثر أمته بما خصه الله به من إجابة الدعوة بالشفاعة له، ولم يجعل ذلك في خاصة نفسه وأهل بيته، فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلى الله عليه أطيب الصلاة، (فهو) كما وصفه الله بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة: 128].

التالي السابق


الخدمات العلمية