التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 258 ] 23 – باب: رفع الأيدي في الدعاء

وقال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه. [انظر: 4323] وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". [انظر: 4339]

6341 - قال أبو عبد الله: وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد وشريك، سمعا أنسا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه. [انظر: 1030 - مسلم: 895 - فتح: 11 \ 141]


وهذان سلفا بإسناديهما.

قال أبو عبد الله: وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد وشريك أنهما سمعا أنسا - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.

والأويسي: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس، هو أخو عبد الله ابني سعد العامري، الفقيه. انفرد به البخاري، وهو ثقة مكثر.

واختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء في (غير) الصلاة، كما قال الطبري: فكان بعضهم يختار إذا دعا الله تعالى في حاجته أن يشير بإصبعه السبابة، ويقول: ذلك الإخلاص.

[ ص: 259 ] ويكره رفع اليدين. روى شعبة (وغيره) وخالد عن حصين، عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان رافعا يديه على المنبر فسبه. قال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد على هذا، يعني: أن يشير بالسبابة.

وروى سعيد عن قتادة قال: رأى ابن عمر قوما رفعوا أيديهم فقال: من يتناول هؤلاء؟! فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا من الله قربا. وكرهه جبير بن مطعم، ورأى شريح رجلا رافعا يديه يدعو فقال: من تتناول بها لا أم لك؟!

وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قد رفعوها قطعها الله. وكره ابن المسيب رفعها والصوت في الدعاء، وكان قتادة يشير بإصبعه ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جبير رجلا يدعو رافعا يديه فقال: ليس في ديننا تكفير. واعتلوا بحديث عمارة بن رؤيبة السالف.

وكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما.

ثم يختلفون في صفة رفعهما، حذو صدره بطونها إلى وجهه، روي ذلك عن (ابن) عمر.

وقال ابن عباس: إذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وكان علي - رضي الله عنه - يدعو بباطن كفيه، وعن أنس - رضي الله عنه - مثله.

[ ص: 260 ] واحتجوا بما رواه صالح بن (حسان)، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إذا سألتم الله -عز وجل- فسلوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، وامسحوا بها وجوهكم".

وكان آخرون يختارون رفع أيديهم إلى وجوههم، روي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، واعتلوا بما رواه حماد بن سلمة عن (بشر) بن حرب قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه، وأسفل من منكبيه.

وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتى يحاذوا بها وجوههم وظهورهم مما يلي وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن القاسم قال: رأيت ابن عمر عند القاضي يرفع يديه يدعو حتى يحاذي منكبيه ظاهرهما يليانه.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا أشار أحدكم بإصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه، وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال.

[ ص: 261 ] واحتجوا بحديث أبي موسى وابن عمر وأنس - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - كان يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه.

والصواب كما قال الطبري أن يقال: كل هذه الآثار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفقة غير مختلفة، والعمل بكل ذلك وجه صحيح فأما الدعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة فكما قال ابن عباس: إنه الإخلاص، والدعاء ببسط اليدين، والابتهال رفعهما.

وقد روى عمر بن نبهان عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بظهر كفيه وبباطنهما. ويجوز أن يكون ذلك كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -; لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس، وجائز أن يكون إعلاما منه بسعة الأمر في ذلك، وأن لهم فعل أي ذلك شاءوا في حال دعائه، غير أن أحب الأمر في ذلك أن يكون اختلاف هيئة الداعي على قدر اختلاف حاجته.

وأما الاستعاذة والاستخارة فأحب الهيئات منها هيئة المبتهل; لأنها أشد لهيئة المستخير، وقد قال شهر بن حوشب: المسألة ببطن الكف والتعوذ مثل التكبير إذا افتتح الصلاة.

وأما حديث قتادة عن أنس - صلى الله عليه وسلم - أنه - عليه السلام - كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فكان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه،

[ ص: 262 ] فيحمل على الرفع البليغ. وقد روى ابن جريج، عن مقسم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: في بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين".

وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع الأيدي مطلقا من وجوه: منها: حديث أبي موسى وابن عمر وأنس من طرق أثبت من حديث أنس، رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه. وذلك أن سعيدا تغير عقله وحالته في آخر عمره، وقد خالفه شعبة في روايته عن قتادة عن أنس، فقال فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. ولا شك أن شعبة أثبت من سعيد. وقد روى جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان، عن سلمان - رضي الله عنه - مرفوعا: "إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا".

فإن قلت: قد روي عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم كرهوا رفع الأيدي في دبر الصلاة قائما، فإنما قيل: يمكن أن يكون ذلك إذا لم تنزل بالمسلمين نازلة يحتاجون معها إلى الاستغاثة إلى الله بالتضرع والاستكانة، فالقول كما قالوا وإن نزلت احتاجوا معها إلى الاستغاثة

[ ص: 263 ] إلى الله بالتضرع والاستكانة; لكشفها عنهم، فالرفع عند مالك حسن جميل. ولكن روى ابن غانم عنه: ليس ذلك من أمر الفقهاء. قال في "المدونة": وعزم عليهم الأمر في الاستسقاء فرفع مالك يديه وجعل بطونهما إلى الأرض وظهورهما إلى السماء، وقال: إن كان الرفع فهكذا.

وقيل: أما في الرهبة فكذلك، وأما في الرغبة فيجعل بطون الكفين إلى السماء. وقيل: يجعل بطونهما إلى السماء في كل حال.

قال الداودي: وروي في حديث في إسناده نظر أن الداعي يمسح وجهه بيديه عند آخر دعائه، ورأيت لابن شعبان أنه مكروه. (قلت: أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عمر، وضعفه الترمذي ونقل عنه تصحيحه، وفيه نظر).

التالي السابق


الخدمات العلمية