صفحة جزء
803 [ 507 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا سفيان، ثنا ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة وهشام بن حجير، سمعوا طاوسا يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولكن لبدت رأسي وسقت هديي فليس لي محل دون محل هديي. فقام إليه سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما [ ص: 224 ] ولدوا اليوم، أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟

قال: بل للأبد دخلت العمرة في الج إلى يوم القيامة.

قال: ودخل علي رضي الله عنه من اليمن فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: بما أهللت؟

قال أحدهما عن طاوس: إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقال الآخر: لبيك حجة النبي - صلى الله عليه وسلم
- .


الشرح

هشام بن حجير. سمع: طاوسا، ولم أجد ذكره في الكتب المشهورة وكان من حقه أن يذكر في كتب المختلف والمؤتلف في باب حجير وحجين .

وسراقة: هو ابن مالك بن جعشم المدلجي، أبو سفيان، وقد يقال: سراقة بن جعشم.

روى عن: النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وروى عنه: جابر، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، والنزال بن سبرة .

وحديث عطاء عن جابر أخرجه البخاري ومسلم في الكتابين [ ص: 225 ] من طرق، وحديث محمد عن جابر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن [أبي] شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه.

وحديث صفية عن أسماء أخرجه مسلم عن زهير بن حرب عن روح بن عبادة عن ابن جريج.

وحديث يحيى بن سعيد عن عمرة أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ومسلم عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد.

وحديث عبد الرحمن بن القاسم أخرجاه من طرق، وحديث طاوس وإن كان مرسلا فهو ثابت من سائر الروايات المسندة ومعناه متفق على صحته.

وقوله: قدم علي رضي الله عنه من سعايته؛ أي: من ولايته على اليمن، ولم يرد من سعايته على الصدقة، وفي جواز كون الهاشمي عاملا للصدقة اختلاف للأصحاب.

والإهلال في الحج: رفع الصوت بالتلبية، ويقال: استهل المولود أي: رفع صوته، وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون صوتهم بالإخبار عنه، والبيداء: أمام ذي الحليفة في طريق مكة وهي أقرب إلى مكة هكذا ذكر، وكل مفازة فهي بيداء.

وقوله: "فليحلل" يقال: حل من إحرامه يحل وحل يحل بالضم [ ص: 226 ] إذا وجب ووقع، وكذلك حل بالمكان يحل.

وقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت أي: لو تأخرت عن رأيي الذي أراه الآن سوق الهدي الذي تقدم ما سقت.

وسرف: على ستة أميال من مكة، وقيل: على سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثني عشر.

ونفست المرأة: حاضت، ونفست فهي نفساء.

ولبد رأسه أي: ألزق الشعر بعضه ببعض بصمغ أو خطمي لئلا يشعث فلا يقع فيه الهوام وإنما يفعل ذلك إذا طال المكث في الإحرام هذا ما يتعلق بالألفاظ.

وأما المعاني والأحكام فمن الظواهر: أن الحج والعمرة يؤديان على ثلاثة أوجه:

أحدها: الإفراد وهو أن يحرم بالحج ويأتي بأعماله، ويعتمر بعد الفراغ من الحج.

والثاني: التمتع وهو أن يحرم الآفاقي في أشهر الحج من الميقات، ثم يحج في ذلك العام من جوف مكة.

والثالث: القران وهو أن يحرم بالحج والعمرة معا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يطوف ويأتي بأعمال الحج فيجزئه عنهما جميعا.

ولا يجوز إدخال الحج عليها بعد الطواف، وأصح قولي الشافعي: أنه لا يجوز إدخال العمرة على الحج، واختلفت الرواية في كيفية أداء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما في حجة الوداع: ففي الصحيح عن عائشة; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج وعنها أنها قالت: خرجت مع [ ص: 227 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ويدل عليه قول جابر في رواية جعفر بن محمد: لا ينوي إلا الحج ولا يعرف غيره. وقول عائشة في رواية عمرة: لا نرى إلا أنه الحج. وفي الصحيح من رواية ابن عمر; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع في حجة الوداع بالعمرة إلى الحجة أهل بالعمرة ثم أهل بالحج.

وعن سعد بن أبي وقاص وابن عباس وعمران بن الحصين; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع وتمتع الناس معه، وفي الصحيح عن أبي قلابة عن أنس; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما.

واحتج أبو سليمان الخطابي لكونه قارنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق الهدي معه، وقال لعلي وهو أهل بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اهد وامكث حراما كما أنت". والهدي إنما يجب على القارن والمتمتع دون المفرد، ولو كان متمتعا لما قال: امكث حراما لأن المتمتع يحل ثم ينشئ للحج إحراما، وعن جابر; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم من ذي الحليفة إحراما موقوفا ينتظر القضاء فنزل عليه الوحي وهو على الصفا، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي أن يجعله عمرة ومن كان معه هدي أن يحج.

[ ص: 228 ] ويوافقه حديث طاوس المنقول في الكتاب، وروي مثله عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش، وحاول محاولون الجمع بين الروايات بأن الفعل كما يضاف إلى الفاعل يضاف إلى الآمر، كما يقال: رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزا، وضرب الأمير درهما، وبنى فلان دارا، وكان في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفرد ومنهم من تمتع ومنهم من قرن، وفعل كل منهم صدر عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه فأضيف ما فعلوه إليه، وذكر الإمام أبو سليمان الخطابي أن الشافعي رضي الله عنه جمع بين الروايات هكذا في كتاب اختلاف الحديث وأنت إذا نظرت في الروايات وتأملت ألفاظها لم يتهيأ لك هذا الجمع، أليس قد روينا عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فمنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج ومنا من أهل بهما، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج وهذا ونحوه بعيد عما قيل في الجمع، على أني قد راجعت كتاب اختلاف الحديث غير مرة فلم أعثر على ما يشعر بذلك، ويمكن أن يقال -بناء على الأظهر من المذهب وهو أن الإفراد أفضل-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم – أفرد، وقول من قال: جمع بينهما محمول على أنه فعلهما جميعا، وقصد الكعبة لهما، وذكرهما في تلبيته ليعرف أن كل واحد واجب مفعول، ومعلوم أن الاعتبار في الإحرام بالنية لا بالتلبية، ويحمل قول من قال: تمتع على أنه أمر به; وأما أنه أمرهم بأن يجعلوا إحرامهم عمرة ويحلوا فقد اتفقت الروايات عليه وذلك لا إشكال فيه على رواية من روى أنهم أحرموا إحراما مبهما، فإن من أبهم الإحرام له أن يصرفه إلى ما يشاء; وإنما أمرهم بأن يجعلوه عمرة تسهيلا للأمر عليهم كيلا تطول مدة الإحرام، وقد ذكر الشافعي في اختلاف الحديث أن إبهامهم الإحرام أولى أن يكون محفوظا من سائر الروايات، وأما على [ ص: 229 ] رواية الإفراد فقد ذكر أنه أمرهم بأن يفسخوا الإحرام بالحج ويجعلوه عمرة، وفي الروايات ما يبين ذلك وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله أنه حج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا فقال: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة، وقصروا ثم أقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة.

فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟

فقال: "افعلوا ما آمركم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله"
ففعله وترجم البخاري الباب بـ "باب التمتع والقران والإفراد في الحج وفسخ الحج" وفعل أبو عبد الله بن ماجه نحوا من ذلك، ثم قال الأكثرون: كان فسخ الحج مخصوصا بهم، يروى عن بلال بن الحارث أنه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟

قال: لكم خاصة
.

وسبب تجويزه لهم أنهم كانوا في الجاهلية يحرمون العمرة في أشهر الحج فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة، وفسخ الحج، صرفا لهم عن عادة الجاهلية وطريقتها، ومنهم من جوز الفسخ لسائر الناس ويروى هذا عن أحمد، ومن قال: إنهم كانوا متمتعين فالمتمتع محل بالفراغ من العمرة، لكن فلا يتوجه أن يقال للمتمتع: اجعل إحرامك [ ص: 230 ] عمرة، ومن قال: كانوا قارنين فلعله يجوز فسخ الحج والاقتصار على العمرة كما ذكرنا على رواية الإفراد، واستدامة النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحرام إلى أن يبلغ الهدي محله ويفرغ من أعمال يوم النحر ظاهرة على قول من قال: أنه كان مفردا أو قارنا، وأما على رواية التمتع فقد ذهب ذاهبون إلى أن المتمتع إذا كان قد ساق الهدي لا يستبيح محظورات الإحرام حتى يفرغ من الحجة وبهذا قال أبو حنيفة; لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله .

وقال آخرون: لا فرق بين [من] ساق الهدي ومن لم يسق، لكن يستحب التحرز عن محظورات الإحرام حتى يفرغ من الحج وهو قول الشافعي، واحتج من رأى التمتع أفضل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وبقوله: لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة وقالوا: لولا أن التمتع أفضل لما تمناه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجيب عنه بأنه إنما ذكر ذلك استطابة لقلوب أصحابه فإنه كان يشق عليهم أن يحلوا وهو محرم، فبين لهم أن الأولى والأليق بالحال ما يأمرهم به، وأنه لولا سوق الهدي لوافقهم عليه، واحتج بإهلال علي بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكاية الحال للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه يجوز أن يهل الرجل بإهلال من هو غائب عنه وهو لا يعرف بم أهل، وفيه تجويز إبهام الإحرام.

[ ص: 231 ] وقوله: حتى إذا أتى البيداء ... إلى آخره قد سبق في تفسير البيداء ما يشعر بخروجه عن حد ذي الحليفة وإذا كان كذلك فلا يكون إنشاء الإحرام منه; لأن الميقات ذو الحليفة، ولكن المراد أنه رفع الصوت بحيث يسمع الناس بالبيداء والإحرام كان بذي الحليفة، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة" .

وعن ابن عباس أنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتيه أهل بالحج فسمع ذلك منه أقوام فحفظته، ثم ركب فأهل وأدرك ذلك منه أقوام ثم مضى، فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء . وشرف البيداء: ما أشرف منها.

وحديث عمرة عن عائشة أورده البخاري في باب ترجمه بـ "ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن" وذكروا في المذهب أنه لا يجوز التضحية عن الغير بغير إذنه، وفي القصة ما يدل على أنه لا يجوز للحائض الطواف بالبيت.

[ ص: 232 ] وقول سراقة: "اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم" كأنه يقول بين لنا كما [تبين] للجاهل المحض، والمولود حين يولد خال عن العلوم.

وفيه أن العمرة لا تجب في العمر إلا مرة.

وقوله: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قيل: معناه أن الحج مغن عنها وهذا قول من لا يوجب العمرة، ومن رآها واجبة قال: معناه أن أعمال العمرة تدخل في أعمال الحج عند القران، وقيل: معناه أن العمرة تدخل في وقت الحج خلافا لما كان أهل الجاهلية عليه من تخصيص العمرة بغير أشهر الحج.

وقوله: قال أحدهما عن طاوس: إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: لبيك حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريد أن أحدهما حكى هذا اللفظ والآخر حكى هذا اللفظ، ولفظ الحج لا يزيل الإبهام فقد تسمى العمرة الحج الأصغر، وأراد بالرجلين ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة دون هشام، فإن حديث طاوس رواه في كتاب اختلاف الحديث من روايتهما ولم يذكر هشاما وحكى اختلافهما في اللفظتين وهو على هذا النسق معاد في الكتاب من بعد.

التالي السابق


الخدمات العلمية