صفحة جزء
428 429 ص: واحتجوا في ذلك على أهل المقالة الأولى، فقالوا: في حديثكم هذا أن عروة لم يرفع بحديث بسرة رأسا، فإن كان ذلك لأنها عنده في حال من لا يؤخذ ذلك عنها، ففي تضعيف من هو أقل من عروة لبسرة ما يسقط حديثها، وقد تابعه على ذلك غيره.

حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب ، قال: أخبرني ابن زيد ، عن ربيعة أنه قال: لو وضعت يدي في دم أو حيضة ما نقض وضوئي، فمس الذكر أيسر أم الدم أم الحيضة؟! قال: وكان ربيعة يقول لهم: ويحكم مثل هذا يأخذ به أحد ويعمل بحديث بسرة؟ ؟ والله لو أن بسرة شهدت على هذا الفعل لما أجزت شهادتها، إنما قوام الدين الصلاة، وإنما قوام الصلاة الطهور، فلم يكن في صحابة رسول الله - عليه السلام - من يقيم بهذا الدين إلا بسرة؟! ؟

قال ابن زيد: : على هذا أدركنا مشيختنا، ما منهم أحد يرى في مس الذكر وضوءا، وإن كان إنما ترك أن يرفع بذلك رأسا؛ لأن مروان عنده ليس في حال من يجب القبول عن مثله، فإن خبر شرطي مروان عن بسرة ، دون خبره هو عنها، فإن كان مروان خبره في نفسه عند عروة غير مقبول، فخبر شرطيه إياه عنها بذلك أحرى ألا يكون مقبولا.


[ ص: 81 ] ش: أي احتج هؤلاء الآخرون على أهل المقالة الأولى.

"في ذلك" أي في عدم انتقاض الوضوء من مس الفرج.

"فقالوا: في حديثكم هذا" أشار به إلى حديث بسرة بنت صفوان الذي احتجوا به.

"أن عروة بن الزبير لم يرفع بحديث بسرة رأسا" أراد أنه لم يعتبره ولم يلتفت إليه، ثم بين الطحاوي ذلك بأنه لا يخلو عن وجهين:

الأول: أن يكون ذلك لكون بسرة بنت صفوان عنده ممن لا يؤخذ مثل ذلك الحكم عنهم؛ وذلك لكونها انفردت بهذه الرواية مع عموم الحاجة إلى معرفته، فصار ذلك كشهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة.

وقال السرخسي في "المبسوط": وحديث بسرة لا يكاد يصح، وقد قال يحيى بن معين: ثلاث لا يصح منهن حديث عن رسول الله - عليه السلام - منها هذا، وما بال رسول الله - عليه السلام - لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله أحد منهم، إنما قاله بين يدي بسرة، وقد كان رسول الله - عليه السلام - أشد حياء من العذراء في خدرها، وتأويله على تسليم ثبوته: "من بال" فجعل مس الذكر كناية عن البول؛ لأن من يبول مس ذكره عادة كقوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط والغائط المطمئن من الأرض، وكنى عن الحدث؛ لأنه يكون في مثل هذا الموضع عادة.

فإن قيل: كيف تقول: لا يكاد [1\ق119-أ] يصح وقد قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح.

وقال محمد بن إسماعيل: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب؟!

قلت: محمد بن إسماعيل هو البخاري لو رضي به لأخرجه في "صحيحه" فلم [ ص: 82 ] يخرجه هو ولا مسلم ، وقول البخاري هذا لا يدل على صحته، وإنما مراده هو على علاته أصح من غيره من أحاديث الباب، وقد اغتر ابن العربي بهذه العبارة فحكى عن البخاري تصحيحه وليس كذلك، وأما قول الترمذي فيعارضه قول يحيى بن معين الذي هو العمدة في هذا الشأن وإليه المرجع في باب التصحيح والتضعيف.

ومع هذا كله يخالف حديث بسرة ما روي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وعمران بن حصين ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي الدرداء ، وعمار بن ياسر ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي أمامة ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد ابن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وربيعة بن عبد الرحمن ، وسفيان الثوري، وجماعة أخرى، فهل يسع للمنصف في دينه أن يترك قول هؤلاء الأعلام من الصحابة الأجلاء ومن التابعين العظماء، ويعمل بحديث بسرة الذي لما جرى أمره في زمن مروان بن الحكم، وشاور من بقي من الصحابة في زمانه قالوا: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبيه بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟ ولهذا قال ربيعة: والله لو شهدت بسرة على هذا الفعل لما أجزت شهادتها. ذكره الطحاوي بقوله: "وقد تابعه على ذلك غيره" أي قد تابع عروة في كونه لم يرفع بحديث بسرة رأسا غيره من العلماء وهو ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك بن أنس، وهو تابعي كبير، قال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت أحد مفتي المدينة ، وروى له الجماعة.

وقال أبو عمر بن عبد البر : كان أحد الفقهاء بالمدينة الذين كانت الفتوى تدور عليهم بها.

[ ص: 83 ] وروى الطحاوي ذلك عنه عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم والنسائي وابن ماجه وبقي بن مخلد وأبي زرعة الرازي وأبي عوانة الإسفرايني، وهو يرويه عن عبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، وهو يرويه عن ابن زيد، وهو أسامة بن زيد الليثي أبو زيد المدني، روى له الجماعة -البخاري مستشهدا- وقال أحمد بن سعيد عن يحيى بن معين: هو ثقة حجة، وهو يرويه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن القرشي التيمي أبي عبد الرحمن المدني، المعروف بربيعة الرأي أنه قال: "لو وضعت يدي في دم أو حيضة ... " إلى آخره، فهذا دليل صريح على أنه قد حكم بسقوط هذا الحديث، ولقد بالغ في وجه تركه حيث أقسم وقال: "والله لو أن بسرة شهدت ... " إلى آخره، ولعمري إنه صادق في قوله: لأن هذا حكم يتعلق به الرجال، فكيف تختص به امرأة؟ وهذه تهمة توجب التوقف، وقبول الصحابة خبر عائشة - رضي الله عنها - في التقاء الختانين لا يناقض هذا؛ لأنه حكم مشترك بين الرجال والنساء، وحديث التقاء الختانين ثبت في الصحيح عن أبي هريرة، وعكسه عن عثمان - رضي الله عنه - وحديث عائشة كان مرجحا مثبتا.

ثم أشار الطحاوي أن عدم التفات عروة لحديث بسرة إن كان لأجل أنهما عنده في عداد من لا يؤخذ ذلك عنهم؛ ففي تضعيف من هو أقل من عروة إياها ما يسقط به حديثها، فكيف في تضعيف مثل عروة وهو حجة متقن ثبت عالم أمين؟ وتضعيفه أولى وأجدر أن يسقط به حديثها، على أن بعضهم قالوا: إن بسرة غير مشهورة؛ لاختلاف الرواة في نسبها، لأن بعضهم يقول: هي كنانية، وبعضهم يقول: هي أسدية.

قوله: "أو حيضة" بكسر الحاء، وهي الحالة التي هي عليها، والحيضة بالكسر أيضا الخرقة التي تستثفر بها المرأة.

قوله: "الطهور" بفتح الطاء، اسم لما يتطهر به، ويجوز بالضم أيضا وهو التطهر.

قوله: "قال ابن زيد" أبي أسامة بن زيد .

[ ص: 84 ] قوله: "مشيختنا" أي مشايخنا، جمع شيخ، ومن جملة مشايخه: محمد بن مسلم الزهري ويعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة ، ونافع مولى ابن عمر ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن بن القاسم ، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن حنين ، وحفص بن عبيد الله بن أنس ، وأبو عبد الله دينار القراظ ، وأبو حازم سلمة بن دينار .

الوجه الثاني لعدم رفع عروة رأسه لحديث بسرة هو ما أشار إليه بقوله: "وإن كان إنما ترك أن يرفع بذلك رأسا ... " إلى آخره، تحريره: أن الذي أخبر عن بسرة هو شرطي مروان، فإذا كان مروان عند عروة ممن لا يؤخذ عنهم؛ فخبر شرطيه أولى ألا يؤخذ؛ لأن خبره عن بسرة دون خبر مروان عنها، وأما مروان فإنما رد عروة خبره لعلة فيه قد ظهرت لعروة، ولا سيما حين خرج على عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - ولهذا قال ابن حزم في "المحلى": مروان ما يعلم له جرح قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - ثم قال: ولم يلقه قط عروة إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه.

قلت: فيه نظر؛ لعدم الدليل على هذه الدعوى، وأما شرطي مروان فإنه مجهول، وقول البيهقي في كتاب "المعرفة": ولولا ثقة الحرسي عنده -أبي عند عروة بن الزبير- لما صار إليه -أي إلى حديث بسرة- غير مسلم؛ لأن عروة لم يقنع بخبره، ولو كان ثقة عنده لاكتفى بمجرد خبره، ولا كان يسأل عن بسرة بنفسه، ثم هو لم يقنع بخبره مروان الذي هو أقوى من خبر شرطيه، فكيف يقنع بخبر وهو أدنى من خبر مروان؟!

ثم الشرطي منسوب إلى الشرط -بفتح الشين والراء- وشرط السلطان: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده، وأصل الشرط -بالتحريك-: العلامة.

قال ابن الأثير: وبه سميت شرط السلطان؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها.

[ ص: 85 ] وقال ابن الأعرابي: هم الشرط والشرطة، فالنسبة إلى الأول: شرطي -بفتحتين- والنسبة إلى الثاني: شرطي -بضم الشين وسكون الراء-.

وقال الأصمعي: واحد الشرط شرطة وشرطي.

التالي السابق


الخدمات العلمية