صفحة جزء
907 ص: وأما ما ذكر عنه في صلاة العصر فلم يختلف عنه أنه صلاها في أول يوم في الوقت الذي ذكرنا عنه، فثبت أن ذلك هو أول وقتها، وذكر عنه أنه صلاها في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم قال: "إن الوقت فيما بين هذين " فاحتمل أن يكون ذلك هو آخر وقتها الذي إذا خرج فاتت. واحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن تؤخر الصلاة حتى يخرج، وأن من صلاها بعده - وإن كان قد صلاها في وقتها - مفرط؛ لأنه قد فاته في وقتها ما فيه الفضل، وإن كانت لم تفت بعد، وقد روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته، ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله" .

فثبت بذلك أن الصلاة في خاص من الوقت أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت، فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر العصر حتى يخرج هذا الوقت الذي صلاها رسول الله -عليه السلام- في اليوم الثاني، وقد دل على ما ذكرنا ما حدثنا ربيع المؤذن ، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا محمد بن الفضيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن للصلاة أولا وآخرا، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس" .


ش: أي لم يختلف عن النبي -عليه السلام- أنه صلى صلاة العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله كما مر في الآثار المذكورة، فثبت بذلك أن ذلك هو أول وقت العصر ، وبقي الكلام في أنه -عليه السلام- صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، فهذا يحتمل أمرين:

[ ص: 169 ] الأول: أن يكون ذلك هو آخر وقتها الذي إذا خرج هذا فاتت العصر.

والثاني: يحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن تؤخر الصلاة إلى حين خروج ذلك الوقت، وأن الذي يصليها بعد ذلك الوقت وإن كان قد صلاها في وقتها مفرط مقصر لما فاته من فضيلة ذلك الوقت وإن كانت لم تفت بعد، ألا ترى إلى ما روي عنه -عليه السلام- أنه قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته..." الحديث، يدل على أن الصلاة في خاص من الوقت أي في جزء معين منه أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت؟! فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر العصر حتى يخرج هذا الوقت هو الذي صلاها رسول الله -عليه السلام- فيه في اليوم الثاني، وإلى هذا ذهبت طائفة فقالوا: لا ينبغي أن يؤخر العصر إلى ما بعد صيرورة ظل كل شيء مثليه، وحكى ابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك : أن آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه، فكأنه لاحظ ما ذكرنا من الاحتمال الأول.

وقال أبو عمر : هذا عندنا وقت الاختيار، وقد ذكر ابن وهب عن مالك أنه قال: آخر وقتها غروب الشمس. وقد قال أيضا ابن وهب عن مالك : وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس. وهذا عندنا أيضا على أصحاب الضرورات.

وقال الشافعي : أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان، ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته العصر مطلقا كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله. قال: وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي -عليه السلام-: "من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها " .

قوله: "هذا الوقت الذي صلاها رسول الله -عليه السلام- " خبر لقوله: "فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر".

قوله: "وقد دل على ما ذكرنا" أراد به ما ذكره من قوله: "فثبت أن ذلك أول وقتها"، وما ذكره من قوله: "وأن من صلاها بعده وإن كان قد صلاها في وقتها".

[ ص: 170 ] والحديث الذي ذكره معلقا أخرجه مالك في "الموطإ" موقوفا: عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: "إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله" .

قال أبو عمر : هذا موقوف في "الموطأ"، ويستحيل أن يكون مثله رأيا فكيف وقد روي مرفوعا بإسناد حسن! رواه ابن أبي ذئب عن المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-، كذا قال في "التمهيد"، وقد نقل بعضهم عن أبي عمر أنه قال: قد روي هذا الحديث من وجوه ضعيفة عن النبي -عليه السلام- منها عن يحيى بن سعيد ، عن يعلى بن مسلم ، عن طلق بن حبيب ، عن النبي -عليه السلام- مرسل. وطلق ثقة إلا أنه مرجئ، ومالك لا يرضى مذهبه، قال: وقد روي مسندا إلا أنه يدور على يعقوب بن الوليد وهو متروك الحديث، فتأمل ما بين الكلامين من التفاوت.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" مرسلا، وقال عبد الرزاق : عن ابن أبي سبرة ، عن يحيى بن سعيد ، عن يعلى بن مسلم ، عن طلق بن حبيب ، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن أحدكم - أو إن الرجل منكم - ليصلي الصلاة وما فاتته ولما فاته من وقتها خير له من مثل أهله وماله" .

قوله: "لم تفته" يعني لم تكن صلاته فائتة؛ لأنه أداها في وقتها، ولكن ما أداها في وقتها الذي فيه الفضيلة والاستحباب، وهو معنى قوله: "ولما فاته من وقتها" أي: وللذي فاته من فضيلة وقتها هو خير له من أهله وماله.

[ ص: 171 ] قال أبو عمر : هذا يدل على أن أول الوقت أفضل . وقال أيضا: كان مالك فيما حكى عنه ابن القاسم لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا، وأظن ذلك - والله أعلم - من أجل قوله -عليه السلام-: "ما بين هذين وقت" فجعل أول الوقت وآخره وقتا، ولم يقل: أوله أفضل، وكان مالك لا يرى بين أول الوقت ووسطه وآخره من الفضل ما يشبه مصيبة من فاته ذلك بمصيبة من ذهب أهله وماله؛ لأن ذلك إنما ورد في ذهاب الوقت كله، هذا معنى قول مالك ، والله أعلم؛ لأن في هذا الحديث أن فوات بعض الوقت كفوات الوقت كله، وهذا لا يقوله أحد من العلماء لا من فضل أول الوقت على آخره ولا من سوى بينهما؛ لأن فوات بعض الوقت مباح وفوات كل الوقت لا يجوز، ففاعله عاص لله تعالى إذا تعمد ذلك، وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وإن كان من صلى في أول الوقت أفضل، وتدبر هذا تجده كذلك إن شاء الله تعالى.

قوله: "وقد دل على ما ذكرنا" أي على ما ذكرنا من قولنا: فثبت بذلك أن الصلاة خاص من الوقت أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت، بيان ذلك في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو قوله -عليه السلام-: "وإن أخر وقتها حين تصفر الشمس" فإنه يدل على أن الصلاة قبل اصفرار الشمس أفضل من الصلاة في حالة الاصفرار؛ وإن كان كل ذلك وقت العصر، ويدل على أن الذي يصلي في حالة الاصفرار مقصر لما فاته من فضيلة الوقت المستحب حين تصفر الشمس.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة هذا عن قريب بهذا الإسناد بعينه، ولكنه قطعه لأجل تطبيق الاستدلال على المدعى، وقد ذكرنا أن الترمذي أخرجه بأتم منه فليراجع هناك.

التالي السابق


الخدمات العلمية