صفحة جزء
1287 1288 ص: وكان من الحجة لهم عليهم في ذلك أن حديثي أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - اللذين رووهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" . ليس في ذلك دليل على أنه أراد بذلك الصلاة التي تكون وراء الإمام، فقد يجوز أن يكون أراد بذلك أن تكون الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، وأخرج من ذلك المأموم بقوله - عليه السلام -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، فجعل المأموم في حكم من قرأ بقراءة إمامه، وكان المأموم بذلك خارجا من قوله - عليه السلام - كل من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فصلاته خداج، . وقد رأينا أبا الدرداء - رضي الله عنه - قد سمع من النبي - عليه السلام - في ذلك مثل هذا، فلم يكن ذلك عنده على المأموم.

كما حدثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح (ح)

وكما حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن أبي الدرداء: "أن رجلا قال: يا رسول الله، في كل الصلاة قرآن؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت. قال: وقال لي أبو الدرداء: أرى أن الإمام إذا أم القوم فقد كفاهم".

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا أبو الدرداء قد سمع من النبي - عليه السلام - في كل الصلاة قرآنا، فقال رجل من الأنصار: وجبت. فلم ينكر ذلك رسول الله - عليه السلام - من قول الأنصاري، ثم قال أبو الدرداء بعد من رأيه ما قال، وكان ذلك عنده على من [ ص: 90 ] يصلي وحده، وعلى الإمام، لا على المأمومين، فقد خالف ذلك رأي أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ذلك على المأموم مع الإمام، فانتفى بذلك أن يكون في ذلك حجة لأحد الفريقين على صاحبه.


ش: أي وكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين على أولئك القوم المذكورين في ذلك، أي فيما استدلوا بحديثي أبي هريرة وعائشة على وجوب قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام: أنه ليس فيهما دليل على أن يكون المراد هو الصلاة التي يكون وراء الإمام، فقد يجوز أن يكون المراد بذلك هو الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، ويخرج من ذلك المأموم بحديث آخر، وهو ما رواه جابر - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة" فقد خص هذا الحديث عموم ذاك الحديث.

الحاصل: أن أهل المقالة الأولى قالوا: إن قوله - عليه السلام -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" عام; لأن لفظ "كل" إذا أضيف إلى النكرة يقتضي عموم الأفراد، فالمعنى كل واحد من أفراد الصلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فيتناول بعمومه صلاة المأموم، وأجاب أهل المقالة الثانية عن ذلك: أن هذا عام مخصوص، فخرج منه حكم المأموم، فبقي حديث أبي هريرة وعائشة مقصورين على الإمام والمنفرد، ثم إن الطحاوي -رحمه الله- أيد كلامه بما رواه عن أبي الدرداء، وذلك أنه قد سمع عن النبي - عليه السلام -: "في كل الصلاة قرآن؟ قال: نعم. فقال رجل من الأنصار: وجبت" أي القراءة في جميع الصلوات، فلم ينكر ذلك رسول الله - عليه السلام - عليه، ثم قال أبو الدرداء بعد ذلك من رأيه: "أرى أن الإمام إذا أم القوم فقد كفاهم" أي عن [ ص: 91 ] القراءة، وإنما قال ذلك إما بناء على ما سبق له من العلم بقوله - عليه السلام -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" ، وإما قال ذلك بطريق الاجتهاد لما أن الإمام ضامن لصلاة القوم، ومن ضمانه أن يتحمل عنهم القراءة، فصار معنى الحديث عنده على من يصلي وحده وعلى الإمام، لا على المأموم ولا يقال هذا رأيا في مقابلة النص; لأنا نقول: إنه لم يصدر ذلك عن أبي الدرداء إلا بعد علمه وجزمه بأن مراد النبي - عليه السلام - من قوله: "كل صلاة لم يقرأ فيها ... " الحديث، صلاة من لا إمام له، فإذا كان الأمر كذلك فقد خالف رأي أبي الدرداء رأي أبي هريرة أن ذلك على المأموم مع الإمام، وذلك قوله: "اقرأها يا فارسي في نفسك" فإذا اختلف الرأيان في الحديث المذكور لم يبق فيه حجة لأحد، ثم إذا حملنا قول أبي هريرة: "اقرأها يا فارسي في نفسك" على معنى تدبر ذلك وتذكره في نفسك، يتفق رأيه مع رأي أبي الدرداء، ويرتفع الخلاف، ويعمل بالحديثين كليهما.

وأما الجواب عن قول من استدل بحديث أبي هريرة على فرضية قراءة فاتحة الكتاب فهو أن يقال: إن الاستدلال كذلك فاسد; لأن قوله تعالى: فاقرءوا ما تيسر من القرآن يقتضي قراءة مطلق القرآن، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص بخبر الواحد، وذا لا يجوز; لأنه نسخ، ولأنه روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد".

رواه أبو داود والطبراني في "الأوسط" وروي عنه أيضا: "أمرني رسول الله - عليه السلام - أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد".

[ ص: 92 ] رواه أبو داود . فإن دلت إحدى الروايتين على عدم جواز الصلاة إلا بفاتحة الكتاب دلت الأخرى على جوازها بلا فاتحة الكتاب، فيعمل بالحديثين ولا نهمل أحدهما بأن نقول بفرضية مطلق القراءة، وبوجوب قراءة فاتحة الكتاب، وهذا هو العدل في باب إعمال الأخبار.

وأيضا فإن قوله: "فما زاد" دلالة على فرضية ما زاد على الفاتحة، وليس ذاك مذهب الخصم.

وجواب آخر: أن الحكم يثبت بقدر دليله، وخبر الواحد ليس قطعيا فلا تثبت به الفرضية، نعم يثبت به الوجوب، ونحن نقول به، فإن كان الخصم يقول: الواجب والفرض عندي سواء، فنقول حينئذ: النزاع لفظي.

وجواب آخر: أن قوله: "خداج" قد ذكرنا أن معناه: ناقص، ونحن نقول أيضا: إن المصلي إذا لم يقرأ فاتحة الكتاب تكون صلاته ناقصة، وأما الاستدلال به على أنها تكون باطلة باطل; لأن معنى الخداج لا ينبئ عن ذلك بل قوله في الحديث: "غير تمام" يرد هذا; فإن عدم كونها تماما لا يستلزم البطلان، وهذا ظاهر.

فإن قيل: هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول فصارت كالمشهور، وبالمشهور تثبت الفرضية.

قلت: سلمنا إذا لم يعارضه دليل آخر، فالله تعالى نص بقوله: ما تيسر فمتى عينا الفاتحة فرضا ينقلب اليسر عسرا، وهو خلاف النص فيرد، فافهم.

ثم إنه أخرج حديث أبي الدرداء من طريقين صحيحين:

الأول: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني أبي عبد الله المصري وثقه ابن يونس ، عن عبد الله بن وهب من رجال الجماعة، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس من رجال مسلم والأربعة، عن أبي الزاهرية الحمصي واسمه حدير بن كريب من رجال مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه ، عن كثير بن مرة الحضرمي [ ص: 93 ] الرهاوي أبي شجرة الحمصي الشامي من رجال الأربعة، قال العجلي: تابعي شامي ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به.

عن أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك - رضي الله عنه -.

وأخرجه الدارقطني : ثنا ابن [مخلد] ، ثنا شعيب بن أيوب وغيره، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، ثنا أبو الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فقال رسول الله - عليه السلام- لي -وكنت أقرب القوم إليه-: ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم". كذا قال، والصواب: "فقال أبو الدرداء: ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم".

وأخرجه الدارقطني : أيضا عن بحر بن نصر شيخ الطحاوي، وقال: حدثنا عبد الملك بن أحمد الدقاق، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، حدثني معاوية بهذا، وقال: قال أبو الدرداء: يا كثير، ما أرى الإمام إلا قد كفاهم.

الثاني: عن أحمد بن داود بن موسى المكي ، عن محمد بن المثنى بن عبيد أبي موسى البصري الحافظ المعروف بالزمن شيخ الجماعة، عن عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري أبي سعيد اللؤلؤي البصري من رجال الجماعة، عن معاوية بن صالح ... إلى آخره.

وأخرجه النسائي : أنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو الزاهرية، قال: حدثني كثير بن مرة الحضرمي ، عن أبي الدرداء سمعه يقول: "سئل رسول الله - عليه السلام - أفي كل صلاة [ ص: 94 ] قراءة؟ قال: نعم، قال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فالتفت إلي وكنت أقرب القوم منه، فقال: ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم". قال أبو عبد الرحمن: هذا عن رسول الله - عليه السلام - خطأ، إنما هو قول أبي الدرداء، ولم يقرأ هذا مع الكتاب.

وأخرجه أيضا ابن ماجه ولكن من غير هذا الطريق: ثنا علي بن محمد، نا إسحاق بن سليمان، نا معاوية بن يحيى ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: "سأله رجال فقال: أقرأ والإمام يقرأ؟ قال: سأل رجل النبي - عليه السلام - أفي كل الصلاة قراءة؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: نعم، فقال رجل من القوم: وجب هذا".

التالي السابق


الخدمات العلمية