صفحة جزء
5874 5875 ص: حدثنا يزيد بن سنان ، قال : ثنا أبو عاصم ، وسعيد بن سفيان الجحدري ، قالا : ثنا ابن عون ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر : " أن عمر - رضي الله عنه - أصاب أرضا بخيبر ، فأتى النبي -عليه السلام - فقال : إنى أصبت أرضا بخيبر ، لم أصب مالا قط أحسن منها ، فكيف تأمرني ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها لا تباع ولا توهب -قال أبو عاصم : : فأراه قال : ولا تورث - فتصدق بها في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متمول . قال : فذكرت ذلك لمحمد فقال : غير متأثل " . .

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي ، قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن عبد العزيز بن مطلب ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر : " أن عمر - رضي الله عنه - استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يتصدق بماله بثمغ ، فقال رسول الله -عليه السلام - : تصدق به ، يقسم تمره ويحبس أصله ، لا يباع ولا يوهب " .


ش: هذان طريقان صحيحان :

الأول : عن يزيد بن سنان القزاز عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري ، وعن سعيد بن سفيان الجحدري نسبة إلى جحدر اسم رجل ، وهو ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكانة بن معبد بن علي بن بكر بن وائل البصري ، قال أبو حاتم : محله الصدق . روى له الترمذي .

وهما يرويان عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري ، روى له الجماعة .

[ ص: 390 ] عن نافع مولى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - .

وأخرجه البخاري : نا مسدد ، ثنا يزيد بن زريع ، قال : نا ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : "أصاب عمر - رضي الله عنه - بخيبر أرضا ، فأتى النبي -عليه السلام - فقال : أصبت أرضا لم أصب مالا قط أفضل منه ، فكيف تأمرني ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، فتصدق عمر - رضي الله عنه - أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث ، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه .

وأخرجه عن أبي عاصم ، عن ابن عون أيضا مختصرا .

وأخرجه مسلم : عن يحيى بن يحيى ، قال : أنا سليم بن جعفر ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : "أصاب عمر - رضي الله عنه - أرضا بخيبر ، فأتى النبي -عليه السلام - يستشيره فيها ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه ، فما تأمرني به ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، قال : فتصدق بها عمر - رضي الله عنه - أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب ، قال : فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه " . قال : فحدثت بهذا الحديث محمدا ، فلما بلغت هذا المكان "غير متمول " قال محمد : "غير متأثل مالا " ، قال ابن عون : وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه : "غير متأثل مالا " .

وأخرجه النسائي : عن إسحاق بن إبراهيم ، عن أبي داود الحفري عمر بن سعد ، عن الثوري ، عن ابن عون ، عن نافع .

[ ص: 391 ] وعن هارون بن عبد الله ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن ابن عون ، عن نافع .

وعن إسماعيل بن مسعود ، عن بشر ، عن ابن عون ، عن نافع .

وعن إسحاق بن إبراهيم ، عن أزهر السمان ، عن ابن عون ، عن نافع .

الطريق الثاني : عن أحمد بن عبد الرحمن ، عن عمه عبد الله بن وهب المصري . . . . إلى آخره .

وأخرجه البيهقي : من حديث ابن وهب : أخبرني إبراهيم بن سعد إلى آخره نحوه .

وأخرجه الدارقطني في "سننه " : ثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء ، نا أبو عبد الرحمن النسائي ، نا محمد بن مصفى بن بهلول ، نا بقية ، عن سعيد بن سالم المكي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : "سألت رسول الله -عليه السلام - عن أرض من ثمغ فقال : حبس أصلها وسبل ثمرها " .

قوله : "بخيبر " هي بلد بين عنزة في جهة الشمال والشرق عن المدينة على نحو ستة مراحل . "وخيبر " بلغة اليهود : الحصن ، وقيل : أول من سكن فيها رجل من بني إسرائيل اسمه خيبر فسميت به ، ولها نخيل كثير وكان في صدر الإسلام دارا لبني قريظة والنضير ، وحكي عن الزهري أن خيبرا فتحت في سنة ست من الهجرة ، والصحيح أن ذلك كان في أول سنة سبع من الهجرة .

قوله : "فأراه " أي أظنه .

[ ص: 392 ] قوله : "والقربى " على وزن فعلى -بالضم - مصدر في الأصل ، تقول : بيني وبينه قرابة وقربى وقرب ومقربة ومقربة وقربة وقربة بضم الراء وسكونها ، قال الله تعالى : ولذي القربى أراد به ها هنا القرابة في الرحم .

قوله : "والرقاب " جمع رقبة ، وفي معناها قولان :

أحدهما : أنهم المكاتبون يدفع إليهم شيء من الوقف تفك به رقابهم ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وجماعة .

والثاني : أنه العتق وذلك بالابتياع من بالوقف ثم العتق .

ويكون ولاؤهم لأصحاب الوقف إن كان له أهل .

قال مالك : سبيل الله كثيرة ، وقال أبو يوسف ، سبيل الله منقطع الغزاة ، وقال محمد : منقطع الحاج ، وبه قال أحمد وإسحاق .

قوله : "وابن السبيل " وهو الذي انقطعت به الأسباب في سفره ، وغاب عن بلده وماله بحيث لا يقدر عليه .

قوله : "لا جناح على من وليها " أي لا إثم على من ولي الأرض الموقوفة وأراد به القيم عليها والناظر في أمرها من جهة الواقف أو من جهة الإمام .

قوله : "غير متمول " نصب على الحال ، يقال : مال الرجل وتمول إذا صار ذا مال ، وقد موله غيره ، ويقال : رجل مال أي كثير المال ، كأنه قد جعل نفسه مالا ، وحقيقته : ذو مال .

قوله : "غير متأثل " أي غير جامع ، يقال : مال مؤثل ، ومجد ماثل ، أي مجموع ذو أصل ، وأثلة الشيء أصله ، ومنه ما جاء في حديث أبي قتادة أنه لأول مال تأثلته .

قوله : "فذكرت ذلك لمحمد " أراد به محمد بن سيرين ، والذاكر هو ابن عون .

قوله : "بثمغ " أي في ثمغ ، وهو بفتح الثاء المثلثة والميم ، وفي آخره غين معجمة ، وهي بقعة على نحو ميل من المدينة ، وكان بها مال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .

[ ص: 393 ] ويستنبط منه أحكام :

الأول : فيه أن الوقف مشروع ; خلافا لمن يبطله جملة ، وهو قول شريح ، ولا خلاف بين الجمهور في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بالفرع ما دام الواقف حيا حتى إن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض ، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة .

ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي ، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال : إذا مت ، فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا ، أو قال : هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي .

واختلفوا في جوازه مزيلا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت ، ولا اتصل به حكم حاكم ، فقال أبو حنيفة : لا يجوز حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته ، وإذا مات يصير ميراثا لورثته .

وقال أبو يوسف ومحمد وعامة العلماء : يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا فرق بينهما إذا وقف في حالة المرض حتى لا يجوز عنده في الحالين جميعا إذا لم توجد الإضافة ولا حكم الحاكم ، وروى الطحاوي عنه أنه إذا وقف في حالة المرض جاز عنده ويعتبر من الثلث ، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته ، وأما عندهما فهو جائز في الصحة والمرض ، وعلى هذا الخلاف إذا بنى رباطا أو خانا للمسافرين أو سقاية للمسلمين ، أو جعل أرضه مقبرة ، لا تزول رقبة هذه الأشياء عن ملكه عند أبي حنيفة إلا إذا أضاف إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم وعندهما يزول بدون ذلك ، لكن عند أبي يوسف بنفس القول وعند محمد بواسطة التسليم ، وذلك تسليم المسافرين في الرباط والخان واستسقاء الناس في السقاية والدفن في المقبرة ، وأجمعوا على أن من جعل داره أو أرضه مسجدا يجوز ، وتزول الرقبة عن ملكه ، لكن عزل الطريق وإفرازه والإذن للناس بالصلاة فيه والصلاة شرط عند أبي حنيفة ومحمد حتى كان له أن يرجع قبل

[ ص: 394 ] ذلك ، وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن ملكه بنفس قوله : جعلته مسجدا وليس له أن يرجع عنه .

الثاني : احتج به الجمهور وأبو يوسف ومحمد على ما ذهبوا إليه ، وقد ذكرناه مفصلا .

الثالث : فيه أن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته ولا يصير ميراثا ; لأنه صار لله تعالى وخرج عن ملك الواقف ، واختلفوا : هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم لا ؟

فقال أصحابنا : لا يدخل ، لكنه ينتفع بغلته بالتصدق عليه ; لأن الوقف حبس الأصل وتصدق بالفرع ، والحبس لا يوجب ملك المحبوس كالرهن ، وعن الشافعي ومالك وأحمد : ينتقل إلى ملك الموقوف عليه لو كان أهلا له ، وعن الشافعي في قول : ينتقل إلى الله تعالى . وهو رواية عن أصحابنا ، وعن الشافعي أن الملك في رقبة الوقف لله تعالى ، وذكر صاحب "التحرير " أنه إذا كان الوقف على شخص ، وقلنا الملك للموقوف عليه افتقر إلى قبضه كالهبة ، وقال النووي في "الروضة " : هذا غلط ظاهر .

الرابع : فيه أن الوقف يجوز بلفظ : حبست ، بل الأصل هذه اللفظة ; لأن الوقف في اللغة الحبس .

وفي "الروضة " : لا يصح الوقف إلا بلفظ ، فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجدا وألفاظه على مراتب :

إحداها : قوله : وقفت كذا أو حبست أو سبلت ، أو أرضي موقوفة ، أو محبسة أو مسبلة ، فكل لفظ من هذا صريح ، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور وفي وجه : هذا كله كناية ، وفي وجه : الوقف صريح والباقي كناية .

الثانية : قوله : حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها ، أو داري محرمة ، أو مؤبدة ، كناية على المذهب .

[ ص: 395 ] الثالثة : تصدقت بهذه البقعة ، ليس بصريح فإن زاد معه صدقة محرمة أو محبسة أو موقوفة ; التحق بالصريح ، وقيل : لا بد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب ، وقال الحنابلة : يصح الوقف بالقول ، وفي الفعل الدال عليه روايتان ، وألفاظه الصريحة : وقفت وحبست وسلبت ، والكناية : تصدقت وحرمت وأبدت ، وتحتاج الكناية إلى نية أو زيادة حكم الوقف ، وإن كان على -أو من - معين افتقر إلى قبول ، كالوصية والهبة .

وقال القاضي : منهم لا يفتقر إلى قبوله كالعتق .

الخامس : فيه أن قيم الوقف له أن يتناول من غلة الوقف بالمعروف ، ولا يأخذ أكثر من حاجته ، هذا إذا لم يعين الواقف له شيئا معينا ، فإذا عينه ، له أن يأخذ ذلك قليلا أو كثيرا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية