صفحة جزء
1697 1698 ص: وحدثنا بحر بن نصر ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن عبد الله بن أبي قيس ، قال: " قلت لعائشة : - رضي الله عنها -: بكم كان النبي - عليه السلام - يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة". .

ففي هذا الحديث ذكرها لما كان يصليه في الليل من التطوع وتسميتها إياه وترا، إلا أنها قد فصلت بين الثلاث وبين ما ذكرت معها، وليس ذلك إلا لأن الثلاث كان لها معنى بائن من معنى ما كان قبلها، فدل ذلك على معنى حديث الأسود 5 ومسروق 5 ويحيى بن الجزار، ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنه كذلك.

والدليل على ذلك أيضا ما روي عنها من قولها:

حدثنا أحمد بن داود ، قال: ثنا ابن أبي عمر ، قال: ثنا سفيان ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " الوتر سبع أو خمس، والثلاث بتراء".

فكرهت أن يجعل الوتر ثلاثا لم يتقدمهن شيء حتى يكون قبلهن غيرهن، فلما كان الوتر عندها أحسن ما يكون هو أن يتقدمه تطوع إما أربع وإما اثنتان، جمعت بذلك تطوع النبي - عليه السلام - في الليل الذي صلح به الوتر الذي بعدها أوتر فسمت ذلك وترا، . إلا أنه قد ثبت في جملة ذلك عندنا أن الوتر ثلاث، فثبت من روايتها عن النبي - عليه السلام - ما رواه عنها سعد بن هشام لموافقة قولها من رأيها إياه، فثبت بذلك أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، غير أن ما رواه هشام بن عروة، عن

[ ص: 60 ] أبيه في ذلك: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن" لم نجد له معنى، وقد نقلت العامة عن أبيه، وعن غيره، عن عائشة بخلاف ذلك; فما روته العامة أولى مما رواه هو وحده وانفرد به.


ش: ذكر هذا الحديث أيضا لبيان حقيقة الوتر، وأنه ثلاث ركعات، بيان ذلك: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام - يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث" فقد ذكرت فيه ما كان يصليه - عليه السلام - في الليل من التطوع، وسمت الجميع وترا على إطلاق اسم الجزء على الكل; لأن الكل ليس بوتر وإنما الوتر منه ثلاث ركعات; ولهذا فصلت بين الثلاث والأربع، والثلاث والثمان، والثلاث والعشر، ولو لم يكن معنى الثلاث مباينا لمعنى ما كان قبله لما فصلت بهذا التفصيل، فثبت بذلك أن الوتر هو الثلاث.

ودل ذلك أيضا على أن معنى حديث الأسود بن يزيد ، ومسروق بن الأجدع ، ويحيى بن الجزار كذلك، وقد مر فيما مضى أحاديثهم أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بتسع، فيكون معناه على معنى الحديث المذكور: "كان يوتر بست وثلاث" فتكون الثلاث وترا، وما قبله من الست نفلا.

ثم الذي يفهم من حديث عائشة - رضي الله عنها - شيئان:

الأول: أن الثلاث الذي هو وتر يمتاز عما ذكر قبله من الأربع والثمان والعشر.

والثاني: أنها أطلقت على الكل وترا; لأنها كانت تكره أن تجعل الوتر ثلاثا من غير أن يتقدمهن شيء، فلهذا قالت من قولها: "الوتر سبع أو خمس، والثلاث بتراء" أي الوتر سبع ركعات، أو خمس ركعات، ولكن المراد أن الثلاث منه هو الوتر وما قبله -من الأربع في السبع، ومن الركعتين في الخمس- نفل وتطوع، وكان الأحسن عندها في الوتر أن يكون قد تقدمه شيء من التطوع، فلذلك قالت: "الثلاث بتراء" أي الثلاث ركعات التي لا يتقدمهن شيء من التطوع بتراء وإن كانت هي وترا، ولذلك المعنى أيضا جمعت تطوع النبي - عليه السلام - مع وتره وأطلقت على الكل وترا حيث قالت:

[ ص: 61 ] "كان يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث"، ولكن ثبت في ضمن هذا الكلام أن الوتر ثلاث ركعات; فحينئذ ثبت ما رواه سعد بن هشام عنها عن النبي - عليه السلام - "أنه كان لا يسلم في ركعتي الوتر"; وذلك لأن قولها من رأيها: "والثلاث بتراء" يدل على أنه يوافق ما رواه سعد عنها عن النبي - عليه السلام -.

فثبت بمجموع ذلك أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخرها.

فإن قيل: يعارض ما ذكرتم ما رواه هشام بن عروة ، عن أبيه في ذلك: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن".

قلت: أجاب عنه الطحاوي بقوله: غير أن مما رواه ابن عروة ، عن أبيه ... إلى آخره، وهو ظاهره.

ثم إسناد حديث بحر بن نصر صحيح، وبحر بن نصر بن سابق الخولاني أبو عبد الله المصري شيخ أبي عوانة الإسفراييني، وثقه يونس بن عبد الأعلى .

وعبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، ومعاوية بن صالح بن حدير المزني الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله بن أبي قيس -ويقال: ابن قيس، والأول أصح- أبو الأسود النصري -بالنون- الشامي الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" : ثنا عبد الرحمن بن معاوية ، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها -: بكم كان رسول الله - عليه السلام - يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ولا أنقص من سبع، وكان لا يدع ركعتين".

قوله: "كان يوتر بأربع وثلاث" أي بأربع ركعات وثلاث ركعات، والمعنى كان يتطوع بأربع ركعات ثم يوتر بثلاث ركعات، ولكنها أطلقت على الكل وترا لما

[ ص: 62 ] ذكرنا من المعنى، وكذا معنى قولها: "وثمان وثلاث" أي ثمان ركعات تطوع وثلاث ركعات وتر، فالجملة إحدى عشرة، وقولها: "وعشر وثلاث" أي وعشر ركعات تطوع وثلاث ركعات وتر.

فإن قيل: إذا كان المراد من هذا تطوعه - عليه السلام - مع الوتر، وقد كان تطوعه - عليه السلام - في الليل -فيما ذكر في الأحاديث السابقة- ثلاث عشرة ركعة، فكيف يكون التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث; لأن المذكور في هذا الحديث سبع ركعات وإحدى عشرة ركعة؟

قلت: يمكن أن يقال في قولها: "بأربع وثلاث" أن يكون هذا خلاف ما كان - عليه السلام - يصليه من ركعتين خفيفتين إذا افتتح صلاته حين يقوم من الليل، وخلاف الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، فيصير الجملة إحدى عشرة ركعة، ويضاف إليها ركعتا الفجر فتصير ثلاث عشرة ركعة، وقد جاء إضافة ركعتي الفجر إلى تطوعه ووتره بالليل كما في حديث أبي سلمة ، عن عائشة: "كانت صلاته في رمضان وغيره سواء ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر"، وقد مر في هذا الباب، وكما في حديث القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويسجد سجدتي الفجر; فذلك ثلاث عشرة ركعة".

أخرجه أبو داود .

وفي رواية له : "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر".

وأما في قولها: "وثمان وثلاث" أن يكون هذا خلاف الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر، فتكون الجملة ثلاث عشرة ركعة.

وأما في قولها: "وعشر وثلاث" أي عشر ركعات تطوع وثلاث وتر، فالجملة ثلاث عشرة ركعة.

[ ص: 63 ] ثم إسناد حديث أحمد بن داود المكي صحيح أيضا على شرط مسلم .

وابن أبي عمر هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نزيل مكة، شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه .

وسفيان هو الثوري .

وعبد الحميد بن جبير بن شيبة بن عثمان المكي روى له الجماعة.

قوله: "بتراء" فعلاء تأنيث أبتر من البتر، وهو القطع، وإنما قالت: "والثلاث بتراء" لما ذكرنا أن أحسن ما يكون من الوتر عندها أن يكون قد تقدمه شيء من النفل إما أربع أو ركعتان.

وقال ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا عباد بن العوام ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبيه، عن عائشة قالت: "لا توتر بثلاث بتراء، صل قبلها ركعتين أو أربعا".

فعلم من هذا أن معنى قولها: "والثلاث بتراء" أي مقطوعة، وهو إنما يكون إذا لم يتقدمها شيء، لا لكون أن الإيتار بالثلاث مكروه لكونه بتراء، فافهم فإنه موضع خفي معناه، قد صعب على كثير من الأغبياء الذين تسلقوا به إلى القول بكراهة الإيتار بثلاث ركعات، وآفة سقم الأذهان تلجئ الأغبياء إلى أكثر من ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية