صفحة جزء
1851 ص: ثم قد عارضه عن ابن عباس غيره:

حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا قبيصة بن عقبة ، قال: ثنا سفيان ، عن أبي بكر بن أبي الجهم ، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال: " صلى رسول الله - عليه السلام - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفا خلفه وصفا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - عليه السلام - ركعتان ولكل طائفة ركعة". .

[ ص: 203 ] فهذا عبيد الله بن عبد الله قد روى عن ابن عباس ما يخالف ما روى مجاهد عنه، ومحال أن يكون الفرض على الإمام ركعة فيصلها بأخرى بلا قعود ولا تشهد ولا تسليم.

فلما تضاد الخبران عن ابن عباس; تنافيا، ولم يكن لأحد أن يحتج في ذلك بمجاهد عن ابن عباس; لأن خصمه يحتج عليه بعبيد الله ، عن ابن عباس بخلاف ذلك.


ش: هذا إشارة إلى حجة أخرى على القوم المذكورين، بيانها أن يقال: إن ما رويتم عن مجاهد ، عن ابن عباس من أن صلاة الخوف ركعة; يعارضه ما رواه عبيد الله ، عن ابن عباس أيضا; لأنه صرح في روايته هذه بأن صلاة الخوف ركعتان، فحينئذ تضاد خبرا ابن عباس وتنافيا; فلم يبق لهم أن يحتجوا في ذلك بخبر مجاهد عن ابن عباس; لأنهم متى احتجوا به يحتج عليهم خصمهم بخبر عبيد الله ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

أخرجه بإسناد صحيح عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي ، عن قبيصة بن عقبة السوائي أبي عامر الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري ، عن أبي بكر بن أبي الجهم -واسم أبي الجهم صخر، ويقال: عبيد- بن حذيفة القرشي العدوي، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .

عن عبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة.

عن عبد الله بن عباس .

وأخرجه النسائي : أنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان، قال: حدثني أبو بكر بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صفا خلفه، وصفا

[ ص: 204 ] موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا".


قوله: "بذي قرد" بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، هو موضع على ليلتين من المدينة على طريق خيبر، ويقال لغزوة ذي القرد: غزوة الغابة أيضا، وكانت في سنة ست من الهجرة، وقال ابن هشام: واستعمل رسول الله - عليه السلام - على المدينة ابن أم مكتوم .

وذكر ابن سعد أنها كانت في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وكانت لرسول الله - عليه السلام - عشرون لقحة ترعى بالغابة، فأغار عليها عيينة في ليلة الأربعاء في أربعين فارسا، فاستاقوها، وكان أبو ذر فيها، وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها، فركب رسول الله - عليه السلام - فخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعا، فوقف، وكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له رسول الله - عليه السلام - لواء في رمحه، وقال: "امض حتى تلحقك الخيل"، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة، فلم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله - عليه السلام - بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلى رسول الله - عليه السلام - بذي قرد صلاة الخوف، وأقام بها يوما وليلة يتحسس الخبر، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة -ويقال: سبعمائة- ثم رجع رسول الله - عليه السلام - إلى المدينة يوم الاثنين وقد غاب خمس ليال.

قوله: "مصاف هؤلاء" بفتح الميم وتشديد الفاء، جمع مصف وهو موضع الحرب الذي تكون فيه الصفوف، وأما المصاف -بضم الميم- فهو بمعنى المقابل، يقال: مصاف العدو، أي مقابلهم.

ثم هذا النوع من صلاة الخوف ذهب إليه ابن أبي ليلى; فإنه قال: إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين، فيكبر ويكبرون، فيركع ويركعون

[ ص: 205 ] جميعا معه، ويسجد الإمام والصف الأول، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو، فإذا قاموا من السجود سجد الصف المؤخر، فإذا فرغوا من سجودهم فقاموا تقدم الصف الآخر وتأخر الصف المقدم، فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك.

ثم اعلم أن صلاة الخوف على أنواع شتى.

فقال الخطابي: وقد صلاها رسول الله - عليه السلام - في أيام مختلفة، وعلى أشكال متباينة يتوخى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها مؤتلفة في المعاني.

وقال ابن القصار المالكي: إن النبي - عليه السلام - صلاها في عشرة مواطن، وذكر مسلم أربعة أحاديث كل حديث يدل على صورة، وذكر أبو داود ثمان صور، وذكر غيره صورا أخرى يبلغ مجموعها ستة عشر وجها.

وقال في الإمام: اختلفت الأحاديث في هيئة صلاة الخوف، فذكر ابن عمر - رضي الله عنهما - هيئة، وروى صالح بن خوات هيئة أخرى، وروى جابر هيئة أخرى، وأحسن ما بنيت عليه هذه الأحاديث أن تحمل على اختلاف أحوال أدى الاجتهاد في كل حالة إلى أن إيقاع الصلاة على تلك الهيئة أحصن وأكثر تحرزا وأمنا من العدو، ولو وقعت على هيئة أخرى لكان فيها تفريط وإضاعة للحزم.

وقال عياض: واختلف فقهاء الأمصار في المختلف من الهيئات الواردة في الإيماء، فأخذ مالك برواية صالح بن خوات التي رواها عنه في "موطإه".

وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر، وأخذ أبو حنيفة برواية جابر، ولا معنى للأخذ بها إلا إذا كان العدو في القبلة، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن الإمام يصلي ركعتين وتصلي كل طائفة ركعة لا أكثر، واحتج بما رواه الطحاوي عن ابن عباس في أول الباب.

[ ص: 206 ] وأخرج مسلم في بعض طرقه عن جابر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - صلى أربع ركعات، بكل طائفة ركعتين" فكانت للنبي - عليه السلام - أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، وهو اختيار الحسن، وذكر عن الشافعي أيضا.

وفيها صورة أخرى رواها ابن مسعود وأبو هريرة، وأخرى رواها أبو داود في حديث ابن مسعود أيضا، وأخرى رواها أيضا في رواية أبي هريرة، وأخرى رويت عن عائشة، وأخرى جاءت في حديث ابن أبي حثمة من رواية صالح بن خوات، وأخرى رويت عن القاسم في حديث ابن أبي حثمة، وأخرى رواها أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم -، وسيأتي ذلك مفصلا مشروحا.

التالي السابق


الخدمات العلمية