صفحة جزء
2646 2647 2648 2649 ص: غير أن أبا ذر - رضي الله عنه - روى عن النبي - عليه السلام - أنه فصل بين الكلب الأسود من غيره من الكلاب ، فجعل الأسود يقطع الصلاة ، وجعل ما سواه بخلاف ذلك ، وأن رسول الله - عليه السلام - سئل عن ذلك فقال : " الأسود شيطان " .

فدل ذلك على أن المعنى الذي وجب به قطعه إنما هو لأنه شيطان ، فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شيء ؟ [ ص: 124 ] فإذا يونس قد حدثنا ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كان أحدكم يصلي ، فلا يدعن أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع ، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " .

حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا أبو ظفر ، قال : ثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - عليه السلام - مثله .

حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا يعقوب بن حميد ، قال : ثنا عبد العزيز بن محمد ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ،

وعن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، جميعا عن النبي - عليه السلام - مثله .

ففي هذا الحديث أن كل مار بين يدي المصلي شيطان . وقد سوى في هذا بني آدم والكلب الأسود إذا مروا بين يدي المصلي .


ش: استثنى هذا الكلام عما قبله ; ليبين وجه التوفيق بين ما روي عن ابن عباس والفضل وبين ما روي عن أبي ذر الغفاري جندب بن جنادة المذكور في أول الباب ; وذلك لأن أبا ذر روى أن الكلب الأسود هو الذي يقطع الصلاة ، وأن خلافه من الكلاب بخلاف ذلك ، وهما رويا أن الكلب مطلقا لا يقطع الصلاة .

وجه التوفيق في ذلك : هو أن النبي - عليه السلام - لما سئل عن الكلب الأسود قال : الأسود شيطان ، فعلل بأن المعنى الموجب لقطع الأسود هو كونه شيطانا ، فإذا كانت العلة هذه فقد وجدنا في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - جعل كل مار بين يدي المصلي شيطانا ، وهو بعمومه يتناول بني آدم والكلب الأسود والأبيض والأحمر وغير ذلك ، فعلم من ذلك أن الكلب على سائر ألوانه حكمه في هذا الأمر كحكم غيره من بني آدم والحمار ، في عدم القطع ; لأنه - عليه السلام - أمر بالدرء في حق كل مار ولم يخص مارا عن مار .

فإن قيل : إذا سلم ذلك ، فما وجه التخصيص بذكر الأسود ؟ [ ص: 125 ] قلت : قد قيل : إن الكلب الأسود جنس من الشياطين أو إن الشياطين غالبا يتمثلون بصورة الكلب الأسود ; فلذلك خصصه بالذكر ، مع أن حكم الكل سواء كما ذكرناه .

ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح .

الأول : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم القرشي ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد الخدري .

وأخرجه مسلم : نا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك . . . إلى آخره نحوه . وأبو داود : عن القعنبي ، عن مالك .

والنسائي : عن قتيبة ، عن مالك نحوه ، غير أنه ليس في روايته : "فإنما هو شيطان " .

الثاني : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي ظفر عبد السلام بن مطهر شيخ البخاري وأبي داود ، عن سليمان بن المغيرة القيسي البصري روى له الجماعة ، عن حميد بن هلال بن هبيرة العدوي روى له الجماعة ، عن أبي صالح ذكوان الزيات ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - عليه السلام - نحوه .

وأخرجه البزار في "مسنده " : حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن يونس بن عبيد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - عليه السلام - قال : "إذا كان أحدكم يصلي فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه ، فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان " وهذا الحديث لا نعلم رواه عن يونس ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد إلا عبد الوارث ، وقد رواه سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد . [ ص: 126 ] الثالث : عن أحمد بن داود المكي ، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة ، شيخ البخاري في "أفعال العباد " ، وعن ابن معين : ثقة . وقال أبو زرعة : صدوق وذكره ابن حبان في "الثقات " .

عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن صفوان بن سليم المدني روى له الجماعة ، عن عطاء بن يسار .

عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، جميعا عن أبي سعيد ، عن النبي - عليه السلام - .

وأخرجه السراج في "مسنده " : ثنا قتيبة بن سعيد الثقفي ، ثنا عبد العزيز -وهو ابن محمد- عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدا يمر بين يديه ، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " .

قوله : "فلا يدعن " بنون التأكيد المشددة ، أي فلا يتركن .

قوله : "وليدرأه ما استطاع " أي وليدفعه قدر استطاعته .

قال القاضي عياض : أي ليدفعه ويمنعه عن ذلك ، ولا يسامحه في المرور ، وهو معنى قوله : "ما استطاع " .

قوله : "فإن أبى " أي امتنع .

"فليقاتله " قال القاضي : أي إن أبى بالإشارة ولطيف المعنى ; فليمانعه ، وليدافعه بيده عن المرور ، وليعنف عليه في رده .

قال أبو عمر : هذا لفظ جاء على وجه التغليظ والمبالغة .

وقال الباجي : يحتمل أن يكون بمعنى فليلعنه ، فالمقاتلة بمعنى اللعن موجودة ، قال الله تعالى : قتل الخراصون قال : ويحتمل أن تكون بمعنى : فليعنفه على فعله ذلك ، وليؤاخذه ، وخرج من ذلك معنى المقاتلة المعلومة بالإجماع . [ ص: 127 ] قوله : "فإنما هو شيطان " قال القرطبي : يحتمل أن يكون معناه : الحامل له على ذلك شيطان ، يؤيده حديث ابن عمر عند مسلم : "لا يدع أحدا يمر بين يديه ، فإن أبى فليقاتله ، فإن معه القرين " .

وعند ابن ماجه : "فإن معه العزى " وقيل : معناه فإنما هو فعل الشيطان لشغل قلب المصلي كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه من قولهم : بئر شطون أي بعيدة ، ومنه سمي الشيطان لبعده عن رحمة الله ، فسماه شيطانا لاتصافه بوصفه ، كما يقال : فلان الأسد ، أي يبطش ويقوى كبطشه وقوته .

قلت : فعلى هذا يكون هذا من باب التشبيه البليغ ، نحو زيد أسد ، شبه المار بين يديه بالشيطان لاشتراكهما في شغل قلب المصلي والتشويش عليه .

ثم اعلم أن الشيطان اسم لكل متمرد ، قال الجوهري : كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب فهو شيطان ، فعلى هذا يجوز حمل الكلام على ظاهره .

ويستفاد منه أحكام :

الأول : أن المصلي لا يمكن أحدا من المرور بين يديه لقوله : "فلا يدعن أحدا يمر بين يديه " .

الثاني : أنه يدفع المار مهما أمكن ، فإن امتنع عليه فليقاتله بمعنى فليعنف في المنع عنه كما ذكرنا .

وقال النووي : هذا أمر ندب متأكد ، ولا أعلم أحدا من الفقهاء أوجبه قال القاضي عياض : وأجمعوا أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ولا ما يؤدي إلى هلاكه فإن دفعه بما يجوز فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء ، وهل تجب ديته أم تكون هدرا فيه مذهبان للعلماء ، وهما قولان في مذهب مالك .

قال : ابن شعبان عليه الدية في ماله كاملة وقيل : هي على عاقلته ، وقيل : هدر . ذكره ابن التين . [ ص: 128 ] قال عياض : واتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليرده ، وإنما يدافعه ويرده من موقفه ; لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره بين يديه ، وإنما أبيح له قدر ما يناله من موقفه ، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح ، واتفقوا على أنه إذا مر لا يرده كيلا يصير مرورا ثانيا ، وقد روي عن البعض : يرده .

واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا ؟ فقال ابن مسعود : يرده وروي ذلك عن سالم والحسن ، وقال أشهب : يرده بإشارة ولا يمشي إليه ; لأن مشيه أشد من مروره ; فإن مشى إليه ورده لم تفسد صلاته .

فإن قيل : المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي أو هو من أجل مرور المار ؟

قلت : الظاهر أنه من أجل مرور المار ، يدل عليه قوله - عليه السلام - : "لأن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه " وقال في حق المصلي : " إن الصلاة لا يقطعها شيء " .

الثالث : أن المقاتلة المذكورة إنما تكون بعد الدفع لاحتمال أن يكون المار ساهيا أو لم ير المصلي أو لم يتبين له أنه يصلي أو فعله عامدا ; فإن رجع حصل المقصود ، فإن لم يرجع قوتل وحكى السفاقسي عن أبي حنيفة بطلان الصلاة بالدفع ، وهو قول الشافعي في القديم وقال ابن المنذر : يدفع في نحوه أولا مرة ، ويقاتله في الثانية ، وقيل : يؤاخذه على ذلك بعد إتمام الصلاة ويؤنبه ، وقيل : يدفعه دفعا شديدا أشد من الرد منكرا عليه ، وهذا كله ما لم يكثر ، فإن أكثر فسدت صلاته وضمن عمر بن عبد العزيز رجلا دفع آخر وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه .

التالي السابق


الخدمات العلمية