صفحة جزء
2897 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس ، قال : أنا سفيان ، عن طلحة بن يحيى بن طلحة ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - قالت : " جاءت الأنصار بصبي لهم إلى النبي - عليه السلام - ليصلي عليه ، فقلت -أو قيل له- : هنيئا له يا رسول الله لم يعمل سوءا قط ولم يدركه ، عصفور من عصافير الجنة ، قال : أو غير ذلك ، إن الله -عز وجل- لما خلق الجنة خلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " .


ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة - رضي الله عنها - .

وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم ورجاله كلهم رجال مسلم ، وسفيان هو ابن عيينة ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله القرشية المدنية ، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .

وأخرجه مسلم في كتاب القدر : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا وكيع ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : "دعي رسول الله - عليه السلام - إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا ; عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه ، قال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " .

وأخرجه أبو داود ، والنسائي أيضا .

قوله : "أو قيل له " شك من الراوي ، وفاعل قلت هو عائشة - رضي الله عنها - . [ ص: 414 ] قوله : "هنيئا له " أي للصبي المذكور ، وانتصاب هنيئا على أنه اسم جار مجرى المصدر في انتصابه بعامل محذوف ، والمعنى : هنؤ له هنيئا ، يقال : هنؤ الطعام يهنؤ هناءة أي صار هنيئا ، وكذلك هنئ الطعام مثل فقه وفقه ، وكل أمر يأتيك من غير تعب فهو هنيء ، وقد يجيء انتصابه على الحال ، نحو قولك : هنيئا لك المال ، والتقدير : ثبت لك المال أو دام حال كونه هنيئا ، وعلى الصفة أيضا كما في قوله تعالى : كلوا واشربوا هنيئا أي أكلا هنيئا وشربا هنيئا .

قوله : "عصفور " خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عصفور .

قوله : "أو غير ذلك " أي أو يكون غير ما ذكرت يا عائشة ، وأراد - عليه السلام - بذلك أن أحدا لا يجزم عليه بأنه من أهل الجنة وإن كان صغيرا لم يعمل سوءا قط إلا الأنبياء عليهم السلام ; فإنهم مقطوع لهم بالجنة ، وكذلك من شهد له النبي - عليه السلام - بالجنة .

ويستنبط منه أحكام :

الأول : أنه يدل على أن الطفل يصلى عليه .

فإن قيل : كيف يدل الحديث على ذلك وليس فيه أنه صلى عليه ؟

قلت : إنما جاءت الأنصار بصبيهم إلى النبي - عليه السلام - علما منهم أنه - عليه السلام - كان يصلي على الأطفال ، ولو كانوا علموا خلاف ذلك لما جاءوا به إليه ، وأيضا لو لم يصل عليه لبين ذلك في الحديث ; فإنهم جاءوا لأجل الصلاة ، فلو كان الطفل لا يصلى عليه لأعلمهم النبي - عليه السلام - بذلك .

الثاني : فيه دلالة على أن الأطفال كلهم من المسلمين ومن الكافرين في مشيئة الله تعالى يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب ، وذلك كله عدل منه ، وهو أعلم بما كانوا عاملين ، وهذا مذهب طائفة من العلماء ، واحتجوا في ذلك أيضا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - : "كل بني آدم يولد على الفطرة . . . " الحديث . [ ص: 415 ] وفيه : "قيل : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " .

قال أبو عمر : هذا يقتضي كل مولود لمسلم وغير مسلم ، ولحديث أبي هريرة أيضا قال : "سئل رسول الله - عليه السلام - عن الأطفال ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين " . هكذا قال "الأطفال " لم يخص طفلا من طفل ، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم : حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأكثر أصحاب مالك ، قال أبو عمر : وليس عن مالك في ذلك شيء مخصوص .

وقالت طائفة : أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة ، وحجتهم حديث أبي هريرة وغيره عن النبي - عليه السلام - قال : "ما من المسلمين من يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله وآباءهم الجنة بفضل رحمته ، يجاء بهم يوم القيامة فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فيقولون : حتى يدخل آباؤنا ، فيقال لهم : ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي " .

وقالت طائفة : حكم الأطفال كلهم كحكم آبائهم في الدنيا والآخرة ، وهم مؤمنون بإيمان آبائهم وكافرون بكفر آبائهم ، فأولاد المسلمين في الجنة ، وأولاد الكفار في النار ، وحجتهم : حديث سلمة بن يزيد الجعفي قال : "أتيت النبي - عليه السلام - أنا وأختي ، فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وتفعل وتفعل ، فهل ينفعنا من عملها شيء ؟ قال : لا ، قلنا : فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا ؟ فقال رسول الله - عليه السلام - : أرأيتم الوائدة والموءودة فإنهما في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها " . [ ص: 416 ] قال أبو عمر : هذا الحديث صحيح من جهة الإسناد ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في غير مقصوده ، فكانت الإشارة إليها ، والله أعلم .

وقالت طائفة : أولاد المسلمين وأولاد المشركين إذا ماتوا صغارا في الجنة ، وحجتهم حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : "سألت خديجة النبي - عليه السلام - عن أولاد المشركين ، فقال : هم مع آبائهم ، ثم سألته بعد ذلك ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت : ولا تزر وازرة وزر أخرى قال : هم على الفطرة أو قال : في الجنة " . وذكر ابن سنجر ، ثنا هوذة ، ثنا عوف ، عن خنساء بنت معاوية قالت : حدثني عمي قال : "قلت : يا رسول الله من في الجنة ؟ قال : النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة " . وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم " . قال أبو عمر : إنما قال : قيل للأطفال اللاهين ; لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم .

وقالت طائفة : أولاد المشركين خدم أهل الجنة ، وحجتهم ما رواه الحجاج بن نصير ، عن مبارك بن فضالة ، عن علي بن زيد ، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - قال : "أولاد المشركين خدم أهل الجنة " . وعن أنس أيضا قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "الولدان -أو قال : الأطفال- خدم أهل الجنة " .

وذكر البخاري في حديث رجاء العطاردي ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي - عليه السلام - الحديث الطويل حديث الرؤيا .

وفيه قوله - عليه السلام - : "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - عليه السلام - ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ، قال : فقيل : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - عليه السلام - : "وأولاد المشركين " .

وقالت طائفة : يمتحنون في الآخرة ، وحجتهم حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - عليه السلام - في الهالك في الفترة ، والمعتوه ، والمولود ، قال : يقول الهالك في [ ص: 417 ] الفترة : لم يأت كتاب ولا رسول ثم تلى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، ويقول : المولود : رب لم أدرك العقل ، فترفع لهم نار فيقال : ردوها وادخلوها قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، قال : فيقول الله : إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم ؟ . ذكره ابن سنجر . قال أبو عمر : من الناس من يوقف هذا الحديث عن أبي سعيد ولا يرفعه ، منهم : أبو نعيم الملائي . وقال السمرقندي في "أصوله " : مذهب أهل السنة : أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة أحدا بلا ذنب صدر منه ، فلا يلحق صبيان الكفار بهم خلافا للخوارج ، وأما في إدخالهم الجنة أو كونهم من أهل الأعراف ، أو أنهم صاروا خدم أهل الجنة فاختلف العلماء فيه ، وكذا اختلفوا في دخول الجن في الجنة ، والأصح أنهم يدخلون الجنة ولكن درجاتهم دون درجات بني آدم في الجنة ، وهو اختيار أبي يوسف ومحمد .

وقال أبو حنيفة : إن الله تعالى ، قال في الجن : ويجركم من عذاب أليم ولم يذكر دخولهم في الجنة صريحا فيوقف فيه ، قلت : وكذا توقف في أطفال المشركين ، وهذا من غاية ورعه ومتانة دينه ، وذكر إسحاق بن راهويه قال : ثنا يحيى بن آدم ، أنا جرير بن جارية ، عن أبي رجاء العطاردي ، قال : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : "لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر " .

فإن قيل : قوله - عليه السلام - : "كل مولود يولد على الفطرة " يدل بعمومه على أن أطفال المشركين أيضا على الفطرة ، وأنهم إذا ماتوا ما لم يبلغوا الحنث يكونون مع المسلمين في الجنة . [ ص: 418 ] قلت : قد اختلف العلماء في ذلك وفي معنى الفطرة .

فقالت طائفة : ليس هذا الكلام عاما ، والمعنى في ذلك أن كل من ولد على الفطرة وكان أبواه على غير دين الإسلام ، هوداه أو نصراه أو مجساه ، وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين مولودون على الفطرة ولكن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين يكفرانه ، وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين يحكم له بحكمهم في صغره ، إن كانا يهوديين فهو يهودي ، يرثهما ويرثانه ، وكذلك لو كانا نصرانيين أو مجوسيين حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ الحنث ، فيكون له حكم نفسه حينئذ لا حكم أبويه ، واحتجوا في ذلك بحديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - : "الغلام الذي قتله الخضر - عليه السلام - طبعه الله يوم طبعه كافرا " .

وبما رواه سعيد بن منصور ، عن حماد بن زيد ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد يرفعه : "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات ، فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا " .

ففي هذين دلالة على أن قوله : "كل مولود " ليس على العموم وأن المعنى فيه : كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان أو نصرانيان ; فإنهما يهودانه وينصرانه ، ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ، ودفعوا رواية من روى : "كل بني آدم يولد على الفطرة " . قالوا : ولو صح هذا اللفظ ما كان فيه حجة أيضا ; لأن الخصوص يجوز دخوله على هذا اللفظ وذلك كما في قوله تعالى : تدمر كل شيء ولم تدمر ، وقوله : فتحنا عليهم أبواب كل شيء ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة ، ومثل هذا كثير . [ ص: 419 ] وقال آخرون : المعنى في ذلك كل مولود من بني آدم فهو يولد على الفطرة أبدا ، وأبواه يحكم له بحكمهما ، إن كان قد ولد على الفطرة حتى يكون ممن يعبر عنه لسانه ، يدل على ذلك رواية من روى : "كل بني آدم يولد على الفطرة " وحق الكلام أن يجري على عمومه . وأجابوا عن حديث سعيد بن منصور بجوابين :

الأول : أنه ضعيف معلول بعلي بن زيد بن جدعان .

الثاني : لا معارضة بينه وبين معنى العموم في هذا الحديث ; لأن من ولد مؤمنا وعاش عليه ومات عليه وكذا عكسه وما أشبهه كله راجع إلى علم الله تعالى ، فإنه قد يولد الولد بين مؤمنين والعياذ بالله يكون سبق في علم الله غير ذلك ، وكذا من ولد بين كافرين ، وإلى هذا أيضا يرجع غلام الخضر - عليه السلام - ، وقد روى قتادة عن عكرمة : "أن الغلام الذي قتله الخضر كان رجلا ، وكان قاطع طريق " ، والدليل عليه حديث الزهري عن محمد بن عبد الله بن نوفل ، عن عبد المطلب بن ربيعة ، قال : "اجتمعت أنا والفضل بن عباس ونحن غلامان شابان قد بلغنا في ذكره من كراهية الصدقة لبني هاشم " ورد هذا بأنه كلام خارج عن العرف والمجاز وقد سمى الله -عز وجل- الإنسان الذي قتله الخضر غلاما ، فالغلام عند أهل اللغة هو الصبي ، يقع عليه عند بعضهم اسم غلام من حين يفطم إلى سبع سنين ، وعند بعضهم يسمى غلاما وهو رضيع إلى سبع سنين ، ثم يصير يافعا ويانعا إلى عشر سنين ، ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة ، وقد قال بعضهم : لم يقتله الخضر إلا وهو كافر ، قد كفر بعد إدراكه وبلوغه ، أو عمل عملا استوجب به القتل فقتله ، ورد هذا بأنه تخرص وظن لم يصح في الأثر ، ولا جاء به خبر ، ولا يعرفه أهل العلم ، ولا أهل اللغة ; فافهم .

ثم اختلف العلماء في معنى الفطرة ، فذكر أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن معنى الحديث فما أجابه بأكثر من أن قال : هذا القول من النبي - عليه السلام - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ، كأنه حاد عن الجواب إما إشكالا [ ص: 420 ] له أو لكراهة الخوض فيه ، وقوله : قبل أن يؤمر الناس بالجهاد غير جيد ; لأن في حديث الأسود بن سريع يبين أن ذلك كان بعد الجهاد ، وهو قوله ، قال رسول الله - عليه السلام - : "ما بال قوم بلغوا في القتل إلى الذرية ، إنه ليس مولود إلا وهو يولد على الفطرة ، فيعبر عنه لسانه " .

ورواه ابن حبان في "صحيحه " ولفظه : "ما من مولود يولد إلا على فطرة الإسلام حتى يعرب " .

وقال أبو حاتم : يريد الفطرة التي يعتقدها أهل الإسلام حيث أخرج الخلق من صلب آدم - عليه السلام - فأقروا له بتلك الفطرة من الإسلام ، فنسب الفطرة إلى الإسلام عند الاعتقاد على سبيل المجاورة .

وقالت طائفة : الفطرة ها هنا الخلقة التي يخلق عليها المولود من المعرفة بربه ، فكأنه قال : كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه -عز وجل- إذا كبر وبلغ مبلغ المعرفة ، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك ، قالوا : لأن الفطرة : الخلقة ، والفاطر : الخالق ، وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار ، قالوا : وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ، ليس فيها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ثم يعتقدون الإيمان أو غيره إذا ميزوا .

واحتجوا بقوله في الحديث : "كما تنتج البهيمة جمعاء -يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " يعني مقطوعة الأذن ، فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ثم تجدع بعد ذلك ، فكذا قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس بهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ، مثل البهائم السالمة ، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم إلا من عصمه الله تعالى ، قالوا : ولو كان [ ص: 421 ] الأطفال قد فطروا على الكفر أو الإيمان في أول أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا ، فقد تجدهم مؤمنين ثم يكفرون ثم يؤمنون ، ويستحيل أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل شيئا ; لأن الله تعالى أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا ، فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار .

قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة هنا ، والله أعلم .

وقال الباقلاني : المراد أن كل مولود يولد في دار الإسلام فحكمه حكم الدار ، وأنه لاحق بكونه مولدا موجودا بأحكام المسلمين في تولي أمره ووجوب الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ومنعه من اعتقاد غير الإسلام إذا بلغ .

وقوله : "فأبواه يهودانه " يريد أنه إذا ولد على فراشهما لحق بأحكامهما في تحريم تولي أمره ولم يرد أنهما يجعلانه يهوديا ولا نصرانيا .

وقال القزاز في "جامعه " : قال بعض المفسرين في قوله : "كل مولود يولد على الفطرة " إنما قال : هذا قبل أن تنزل الفرائض ; لأنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات أبواه قبل أن يهودانه أو ينصرانه لما كان يرثهما ويرثانه ، فلما نزلت الفرائض علم أنه يولد على دينهما .

وقالت طائفة : الفطرة هنا : الإسلام ، وهو المعروف عند السلف من أهل العلم بالتأويل ; فإنهم أجمعوا في قول الله -عز وجل- : فطرت الله التي فطر الناس عليها قالوا : هي دين الإسلام ; لأن الإسلام والإيمان : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، وهذا معدوم في الطفل .

وقالت طائفة : معنى قوله : "على الفطرة " : على البدأة التي ابتدأهم عليها ، أي على ما فطر الله تعالى عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم من آبائهم واعتقادهم فكأنه قال : كل [ ص: 422 ] مولود يولد على ما ابتدأه عليه ، قال محمد بن نصر : وقد كان أحمد يذهب إلى هذا القول ثم تركه ، قال أبو عمر : مذهب مالك نحو هذا .

وقالت طائفة : معنى ذلك : أن الله تعالى قد فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان ، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال : ألست بربكم فقالوا جميعا : بلى ، فأما أهل السعادة فقالوا : بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم ، وأما أهل الشقاوة فقالوا : بلى كرها لا طوعا ، وتصديق ذلك قوله تعالى : وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإلى هذا ذهب ابن راهويه .

وقالت طائفة : معناها ما أخذه الله من الميثاق على الذرية ، فأقروا جميعا له تعالى بالربوبية عن معرفة منهم به ، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار .

وقالت طائفة : الفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء .

الثالث من الأحكام : فيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان ; ردا لما قاله بعض المعتزلة أنهما لم يخلقا الآن وأن الله يخلقهما يوم القيامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية