صفحة جزء
3005 ص: وذهبوا في تأويل هذه الآثار المتقدمة إلى أن قول النبي - عليه السلام - : "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" أنها لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غيرها فيأخذها على الضرورة وعلى الحاجة من جميع الجهات منه إليها ، فليس مثله ذو المرة السوي القادر على اكتساب غيرها في حلها له ; لأن الزمن الفقير تحل له من قبل الزمانة ومن قبل عدم قدرته على غيرها ، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصة وإن كانا جميعا قد يحل لهما أخذها ; فإن الأفضل لذي المرة السوي تركها والاكتساب بعمله ، وقد يغلظ الشيء من هذا فيقال : لا يحل أو لا يكون كذا على أنه غير متكامل للأسباب التي بها يحل ذلك المعنى ، وإن كان ذلك المعنى قد يحل بها دون تكامل تلك الأسباب .

[ ص: 13 ] فمن ذلك ما روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال : "ليس المسكين بالطواف ولا بالذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يسأل ولا يفطن له فيتصدق عليه " .

فلم يكن المسكين الذي يسأل خارجا من أسباب المسكنة وأحكامها حتى لا يحل له أخذ الصدقة ، وحتى لا يجزئ من أعطاه منها شيئا مما أعطاه من ذلك ، ولكن ذلك على أنه ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة ، فكذا قوله : "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" أي أنها لا تحل له من جميع الأسباب التي تحل بها الصدقة وإن كانت قد تحل له ببعض تلك الأسباب .


ش: أي : وذهب الآخرون وهم أهل المقالة الثانية في تأويل الأحاديث المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه ، وأشار بهذا إلى أن استدلالهم بالأحاديث المذكورة غير تام ; لأنهم صرفوها عن تأويلها الذي هو المراد ، وهو أن قوله - عليه السلام - : "لا تحصل الصدقة لذي مرة سوي" معناه : لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غير الصدقة وإنما يأخذها لأجل ضرورته وحاجته إليها من سائر الجهات بخلاف ذي المرة السوي ; فإنه قادر على اكتساب غير الصدقة .

وحاصله : أن ذا المرة السوي له جهتان : جهة الفقر ، وجهة القوة والقدرة على الاكتساب ، فقوله - عليه السلام - : "لا تحل لذي مرة سوي قوي" مصروف إلى هذه الجهة يعني بالنظر إلى قوته وقدرته على الاكتساب تحرم له الصدقة ، وأما بالنظر إلى الجهة الأخرى وهي جهة الفقر يحل له أخذها ; لأنه في هذه الجهة كسائر الفقراء ، وهو معنى قوله : لأن الزمن الفقير تحل له من قبل الزمانة ، ومن قبل عدم قدرته على غير الصدقة ، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصة يعني لا من جهة القوة والقدرة على الاكتساب وإن كانا جميعا قد يحل لهما أخذها أي : أخذ الصدقة ، يعني بالنظر إلى جهة الفقر والاحتياج ، فيكون قوله - عليه السلام - : "لا تحل لذي مرة سوي" من باب التغليظ والتشديد ; لأنه لم يجمع أسباب المسكنة كلها التي بها تحل الصدقة ، فلم يكن كالفقير الذي جمع أسباب حل أخذ الصدقة .

[ ص: 14 ] والأسباب هي : الفقر والعجز وعدم القدرة على الاكتساب ، ونظير ذلك قوله عليه السلام : "ليس المسكين بالطواف . . . " الحديث ، فإنه لا يدل على أن المسكين الذي يسأل يخرج عن حد المسكنة بحيث لا يجوز له أخذ الصدقة ، بل هو مسكين يجوز له أخذ الصدقة ، ولكن نفى عنه المسكنة في حالة السؤال ; للتغليظ والزجر حيث لم يجمع أسباب المسكنة كلها ، فالمعنى : المسكين الذي يسأل ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة ، فكذلك قوله - عليه السلام - : "ولا تحل لذي مرة سوي" معناه : لا تحل له الصدقة من جميع الأسباب التي تحل بها للفقير الذي لا يقدر على غيرها ، وإنما تحل له ببعض تلك الأسباب ، وهو كونه فقيرا مع قطع النظر عن قوته وقدرته على الاكتساب .

وقوله - عليه السلام - : "ليس المسكين بالطواف . . . " إلى آخره قد أخرجه الطحاوي : في باب : "التسمية على الوضوء" عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة - رضي الله عنهما - ، وقد استوفينا الكلام فيه هناك .

قوله : "وإن كانا جميعا" واصل بما قبله ، وجميعا يعني مجتمعين .

قوله : "حتى لا تحل له" بنصب اللام ; لأنه جواب النفي ، وهو قوله : فلم يكن المسكين الذي يسأل .

وقوله : "وحتى لا تجزئ" عطف على قوله : "حتى لا تحل له" داخل في حكمه ، فافهم .

وقد أجاب بعض أصحابنا عنه بأن الصدقة إنما لا تحل لذي مرة سوي إذا سأل وإن لم يسأل يحل له أخذها ; لأنه فقير كسائر الفقراء ، وأن هذا القيد مراد في الحديث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية