صفحة جزء
6 ص: وكان من الحجة في ذلك أيضا أنهم قد أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البئر فغلبت على طعم مائها أو ريحه أو لونه أن ماءها قد فسد، وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شيء إنما فيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بئر بضاعة فقيل: إنه يلقى فيها الكلاب والمحائض. فقال: إن الماء لا ينجسه شيء" ونحن نعلم أن بئرا لو سقط فيها ما هو أقل من ذلك لكان محالا ألا يتغير ريح مائها أو طعمه، هذا مما يعقل ويعلم، فلما كان ذلك كذلك وقد أباح لهم النبي - عليه السلام - ماءها وأجمعوا أن ذلك لم يكن وقد داخل الماء التغير من جهة من الجهات اللاتي ذكرنا; استحال عندنا -والله أعلم- أن يكون سؤالهم النبي - عليه السلام - عن مائها وجوابه إياهم في ذلك بما أجابهم كان والنجاسة في البئر، ولكنه كان -والله أعلم- بعد أن أخرجت النجاسة من البئر فسألوا النبي - عليه السلام - عن ذلك هل يطهر بإخراج النجاسة منها فلا ينجس ماؤها الذي يطرأ عليها بعد ذلك؟ وذلك موضع مشكل; لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج؟ فقال لهم النبي - عليه السلام -: "إن الماء لا ينجس" يريد بذلك الماء الذي يطرأ عليها بعد إخراج النجاسة منها; لا أن الماء لا ينجس إذا خالطته النجاسة، وقد رأينا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن لا ينجس" .


ش: هذا إشارة إلى جواب آخر عن مقالة الخصم وهو ظاهر.

قوله: "أنهم" في محل الرفع على أنه اسم "كان" والتقدير: وكان من الحجة في ذلك اجتماعهم -أعني إجماع كل من الخصم والأصحاب- على أن النجاسة ... إلى آخره.

فإن قلت: كيف قال: قد أجمعوا، والظاهرية ليسوا بقائلين بهذا الحكم فإن عندهم الماء لا ينجسه شيء أصلا على ما حكينا عن ابن حزم أن مذهبهم هو مذهب [ ص: 71 ] جماعة من الصحابة والتابعين، وقد سردنا أسماءهم، ثم قال في آخره: فإن كان التقليد; فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي . ثم استدل على مذهبه بحديثين: أحدهما ما رواه سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء" والآخر ما رواه حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلنا على الناس بثلاث" فذكر - عليه السلام - منها "وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" يعم عليه السلام كل ماء ولم يخص ماء من ماء.

قلت: المراد من الخصم في هذا الفصل مالك ومن تبعه فإنهم قائلون بأن البئر إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصاف الماء فيها فإنه ينجس، ولا اعتبار لمخالفة الظاهرية ; لأن كلامهم ساقط; ألا ترى إلى قول ابن حزم : فعم عليه السلام كل ماء ولم يخص ماء من ماء. كيف هو في غاية السقوط والتفاهة; لأن قوله عليه السلام: "إذا لم نجد الماء" أي الماء الطاهر المطهر، بدليل قوله - عليه السلام -: "لا ينجس الماء شيء إلا ما غير ريحه أو طعمه" رواه الطبراني وابن ماجه وقد ذكرناه. وقوله - عليه السلام -: "لا يبل أحدكم في الماء الراكد ثم يتوضأ منه" رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" ولو كان البول فيه لم ينجسه لم يكن للنهي فائدة.

قوله: "وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شيء" يعني من الحكم المجمع عليه وهو فساد ماء البئر بوقوع النجاسة التي غلبت على أحد أوصاف الماء.

قوله: "ألا تتغير" في محل الرفع على أنه اسم كان، والتقدير: لكان عدم تغير ريح مائها محالا.

[ ص: 72 ] قوله: "فلما كان ذلك كذلك" أي لما كان الأمر كما ذكرنا.

قوله: "وقد أباح" جملة حالية وكذلك الواو في قوله: "وقد داخل الماء التغير" للحال، والتغير فاعل "داخل".

قوله: "استحال" جواب "لما".

قوله: "وجوابه إياهم" أي جواب النبي - عليه السلام - للصحابة الذين سألوه.

قوله: "والنجاسة في البئر" جملة حالية أيضا.

قوله: "من البئر" أي بئر بضاعة .

قوله: "يطرأ" أي يعرض ويجدد.

"بعد ذلك" أي بعد إخراج النجاسة من البئر.

قوله: "وذلك موضع مشكل" إشارة إلى عدم نجاسة الماء الطارئ عليها، يعني كيف يطهر هذا، وهو مشكل "لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها النجس لم يخرج" لأنه خالطه نجاسة فأجاب - عليه السلام - بقوله: "إن الماء لا ينجس" يعني الماء الذي يطرأ ويجدد بعد إخراج النجاسة، لا أن الماء لا ينجس أصلا إذا خالطته النجاسة، يعني ليس المراد من قوله: "إن الماء لا ينجس" أنه لا ينجس إذا خالطته النجاسة، ثم أيد هذا التأويل بقوله: "وقد رأينا أنه - عليه السلام - قال: "المؤمن لا ينجس" لأن معناه ليس أن بدنه لا ينجس وإن أصابته النجاسة; لأن نجاسته حينئذ ظاهرة لا يمكن نفيها عنه، بل معناه لا ينجس من حيث الاعتقاد، كما يقال في حق المشرك: إنه نجس من حيث الاعتقاد; إذ لو كان نجسا بغير هذا المعنى لكان سؤره نجسا مع أنه طاهر.

التالي السابق


الخدمات العلمية