صفحة جزء
3233 3234 ص: فإن قال قائل : إن فطر رسول الله - عليه السلام - وأمره أصحابه بذلك بعد صومه وصومهم الذي لم يكن ينهاهم عنه ناسخ لحكم الصوم في السفر أصلا .

قيل له : وما دليلك على ما ذكرت في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الذي قد ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا أنه كان يصوم مع رسول الله - عليه السلام - في السفر بعد ذلك ؟ فدل هذا الحديث على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي - عليه السلام - المذكور في هذه

[ ص: 350 ] الآثار مباحا ، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو أحد من روي عنه في إفطار النبي - عليه السلام - ما ذكرنا .

ما حدثنا يونس ، قال : ثنا علي بن معبد ، قال : حدثني عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم بن مالك ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : " إنما أراد -عز وجل- بالفطر في السفر التيسير عليكم ، فمن يسر عليه الصيام فليصم ، ومن يسر عليه الفطر فليفطر " .

حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا روح ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : "إن شاء صام وإن شاء أفطر " .

فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبي - عليه السلام - في السفر بعد صيامه فيه ناسخا للصوم في السفر ، ولكنه جعله على جهة التيسير .


ش: تقرير السؤال أن يقال : إن فطر رسول الله - عليه السلام - في سفره بعد صومه ، وأمره أيضا للناس بالفطر بعد صومهم يدلان على أن الصوم في السفر منسوخ .

وهذا السؤال من جهة من يقول بعدم جواز الصوم في السفر ، وهو قول الظاهرية أيضا ، ولهذا صرح ابن حزم بانتساخ حكم الصوم في السفر .

وتقرير الجواب أن يقال : لا نسلم صحة دعوى النسخ ، وما دليلك على هذا ؟ بل الدليل يدل على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي - عليه السلام - فيه مباح ، وذلك قول أبي سعيد الخدري في حديثه الذي رواه عنه قزعة بن يحيى المذكور عن قريب : "ثم لقد رأيتني أصوم مع رسول الله - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك " .

قوله : "بعد ذلك " يدل على أنه كان يصوم مع النبي - عليه السلام - بعد إفطاره - عليه السلام - في السفر وأمره الناس بذلك ; فدل على أن حكم الصوم في السفر باق ، وأنه غير منسوخ .

ثم أكد ذلك بقوله : وقد قال ابن عباس وهو أحد من روي عنه .

أي : والحال أنه أحد من روي عنه في إفطار النبي - عليه السلام - ما ذكرنا .

[ ص: 351 ] وهو الذي أخرجه من طرق عديدة فيها إفطار النبي - عليه السلام - في السفر .

قوله : "ما حدثنا يونس " مقول القول ، أي : وقد قال ابن عباس ما حدثنا يونس ابن عبد الأعلى ، عن علي بن معبد بن شداد ، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي روى له الجماعة ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري روى له الجماعة ، عن طاوس بن كيسان اليماني روى له الجماعة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - .

وأخرجه الجصاص في "أحكامه " : من رواية عبد الكريم ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : "لا يعتب على من صام ولا على من أفطر ; لأن الله تعالى قال : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " .

والأثر الثاني : عن أبي بكرة بكار ، عن روح بن عبادة ، عن شعبة ، عن منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .

وهذا أيضا إسناد صحيح .

وأخرجه البخاري ومسلم : من حديث جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : "سافر رسول الله - عليه السلام - في رمضان حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس ، فأفطر حتى قدم مكة ، فكان ابن عباس يقول : صام رسول الله - عليه السلام - في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر " .

وقد أخرجه الطحاوي أيضا فيما مضى .

فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يجعل إفطار النبي - عليه السلام - في السفر بعد صيامه فيه -أي في السفر- ناسخا للصوم في السفر ، ولكن جعله على جهة التيسير ، وأخبر في أثره المذكور أن اليسر المذكور فيه أريد به التخيير ، فلولا احتمال الآية لما تأولها عليه .

[ ص: 352 ] وقال الجصاص : في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر رخصة يسر الله بها علينا ، ولو كان الإفطار فرضا لازما لزال فائدة قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر لأن قوله يريد الله بكم اليسر يدل على أن المسافر يتخير بين الإفطار وبين الصوم ، كقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن وقوله : فما استيسر من الهدي فكل موضع ذكر فيه التيسير ففيه الدلالة على التخيير .

التالي السابق


الخدمات العلمية