صفحة جزء
3237 ص: وكان مما احتج به أيضا أهل المقالة الأولى في رفعهم الصوم في السفر ما قد ذكرنا في غير هذا الموضع من قول رسول الله - عليه السلام - : " إن الله قد وضع عن المسافر الصيام " .

قالوا : فلما كان الصيام موضوعا عنه كان إذا صامه فقد صامه وهو غير مفروض عليه فلا يجزئه .

فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك : أنه قد يجوز أن يكون ذلك الصيام

[ ص: 355 ] الذي قد وضعه عنه هو الصيام الذي لا يكون له منه بد في تلك الأيام كما لا بد للمقيم من ذلك .

وفي هذا الحديث ما دل على هذا المعنى ، ألا تراه يقول : "وعن الحامل والمرضع " ، أفلا ترى أن الحامل والمرضع إذا صامتا رمضان أن ذلك يجزئهما ، وأنهما لا يكونان كمن صام قبل وجوب الصوم عليه ، بل جعلتا يجب الصوم عليهما بدخول الشهر ، فجعل لهما تأخيره للضرورة ؟ والمسافر في ذلك مثلهما . وهذا أولى ما حمل عليه هذا الأثر حتى لا يضاد غيره من الآثار التي قد ذكرناها في هذا الباب .


ش: أي : وكان من الذي احتج به أيضا أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن الصوم مرفوع عن المسافر حتى إنه إذا صام لا يجوز عند بعضهم ، كما قد مر بيانه .

قوله : "ما قد ذكرناه " في محل الرفع ; لأنه اسم كان ، وأراد بـ "غير هذا الموضع " باب صلاة المسافر فإنه أخرج فيه من حديث عبد الله بن الشخير ، عن رجل من بلحريش ، أن النبي - عليه السلام - قال : " إن الله قد وضع عن المسافر الصيام " ورواه بوجوه مختلفة هناك ، واحتج به هؤلاء وقالوا : لما كان الصيام موضوعا عن المسافر كان إذا صامه فقد صامه والحال أنه غير مفروض عليه ; فلا يجزئه ، وقد استدل ابن حزم أيضا بهذا الحديث على أن الإفطار في السفر فرض في شهر رمضان ، فقال : أسقط الله تعالى بهذه الأخبار عن المسافر الصوم ونصف الصلاة ، فإذا صامه لم يجزئه عن رمضان .

وأجاب عن ذلك بقوله : "فكان من الحجة للآخرين عليهم " ، أي : فكان من الجواب للآخرين وهم الذين ذهبوا إلى تخيير المسافر في الصوم والإفطار "عليهم " أي : على أهل المقالة الأولى "في ذلك " أي : فيما احتجوا به "أنه " أي : أن الشأن "قد يجوز أن يكون ذلك الصيام الذي قد وضعه عنه " أي : عن المسافر "هو الصيام الذي لا يكون له منه بد في تلك الأيام " وأراد بها : الأيام التي لم تكن رخصة الإفطار فيها مشروعة يعني : أن الصيام الذي وضعه الله عن المسافر في هذا الحديث هو الصيام الذي كان

[ ص: 356 ] عليه فرضا في السفر كما كان فرضا على المقيم ، ثم لما رخص الله بالإفطار للمسافر وضع عنه الصيام إلى وقت آخر . وقد دل على هذا المعنى قوله في الحديث : "عن الحامل والمرضع " أي : وضع الصوم أيضا عن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما ، ومع هذا لو صامتا عن رمضان فإنه يجزئهما عنه ; لأن الصوم وجب عليهما بدخول الشهر ، غير أنه أبيح لهما الإفطار للضرورة ، فإذا أقدمتا عليه جاز عن فرضهما ، وكذلك المسافر وجب عليه الصوم بدخول الشهر ، غير أنه أبيح له الإفطار لمشقة السفر ، فإذا أقدم عليه جاز عن فرضه .

فهذا تحقيق ما قاله الطحاوي ، وقد قال أبو بكر الرازي : إن قوله - عليه السلام - هذا يدل على أن الفرض لم يتعين على المسافر بحضور الشهر ، وأن له أن يفطر فيه ، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه ، كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع ، وفيه من المخالفة لما قاله الطحاوي على ما لا يخفى ، والذي قاله الطحاوي هو التقريب ; فافهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية