صفحة جزء
[ ص: 490 ] 3364 3365 ص: وكان من حجتهم فيما احتج به عليهم أهل المقالة الأولى : أنه قد روي عن رسول الله - عليه السلام - في إباحته القبلة للصائم ما هو أظهر من حديث ميمونة بنت سعد وأولى أن يؤخذ به ، وهو ما حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا شعيب بن الليث ، قال : ثنا الليث ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري ، عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : "هششت يوما فقبلت وأنا صائم ، فأتيت رسول الله - عليه السلام - فقلت : فعلت اليوم أمرا عظيما ، فقبلت وأنا صائم . فقال رسول الله - عليه السلام - : أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم ؟ فقلت : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله - عليه السلام - : ففيم ؟ ! " .

حدثنا علي بن معبد ، ثنا شبابة بن سوار ، قال : ثنا ليث بن سعد . . . فذكر بإسناده مثله .

فهذا الحديث صحيح الإسناد معروف الرواة ، وليس لحديث ميمونة بنت سعد الذي رواه عنها أبو يزيد الضني وهو رجل لا يعرف فلا ينبغي أن يعارض حديث من ذكرنا بحديث مثله ، مع أنه قد يجوز أن يكون حديثه ذلك على معنى خلاف معنى حديث عمر - رضي الله عنه - هذا ، ويكون جواب النبي - عليه السلام - الذي فيه جوابا لسؤال سئل في صائمين بأعيانهما على قلة ضبطهما لأنفسهما ، فقال ذلك فيهما ، أي أنه إذا كانت القبلة منهما فقد كان معها غيرها مما قد يضرهما لأنفسهما .

وهذا أولى ما قد حمل عليه معناه ; حتى لا يضاد غيره .


ش: أي : وكان من حجة أهل المقالة الثانية فيما احتج به عليهم أهل المقالة الأولى : أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - حديث في إباحة القبلة للصائم ، هو أصح من حديث ميمونة بنت سعد وأشهر ، وهو حديث جابر ، عن عمر بن الخطاب ; فإن رجاله معروفون ثقات ، فلا يعارضه حديث أبي يزيد الضني ، وهو رجل لا يعرف ، فحينئذ يسقط حديثه ولا يعمل به ، وقد ذكرنا أن ابن حزم ادعى أنه منسوخ ، إن كان صحيحا ، وإنما قلنا : إن حديث جابر عن عمر أصح ; لأن إسناده على شرط مسلم ورجاله رجال مسلم وغيره ما خلا ربيعا ، وهو أيضا ثقة .

[ ص: 491 ] وأخرجه أبو داود : ثنا أحمد بن يونس ، قال : ثنا الليث .

ونا عيسى بن حماد ، قال : أنا الليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال عمر بن الخطاب : "هششت . فقبلت وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله ، صنعت اليوم أمرا عظيما ; قبلت وأنا صائم ، قال : أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ -قال عيسى بن حماد في حديثه- قلت : لا بأس به ، قال : فمه ؟ ! " .

وأخرجه النسائي والبيهقي .

فإن قيل : قال النسائي : هذا حديث منكر . وقال البزار : لا نعلمه يروى إلا عن عمر من هذا الوجه . وقال أحمد بن حنبل : هذا ريح ، ليس من هذا شيء .

قلت : أخرجه الحاكم في "مستدركه " : أنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان ، نا أبو حاتم وإبراهيم بن نصر الرازيان ، قالا : نا أبو الوليد الطيالسي ، نا الليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري ، عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي .

ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، انتهى .

واحتج به ابن حزم أيضا .

وأبو داود لما أخرجه سكت عنه ، وسكوته يدل على رضاه به ، وأيضا نص الطحاوي على صحته بقوله : فهذا الحديث صحيح الإسناد معروف الرواة .

[ ص: 492 ] قوله : "هششت " أي ارتحت ، يقال : هش لهذا الأمر يهش هشاشة إذا فرح به واستبشر وارتاح له وخف ، وذكره في "الدستور " في باب نصر ينصر ، وفي باب ضرب يضرب أيضا ، وفي باب علم يعلم أيضا ، ولكن الذي ذكره في باب نصر ينصر معناه الإسقاط ، تقول : هششت الورق هشا خبطته بعصى ليتحات ، ومنه قوله تعالى : وأهش بها على غنمي

والذي ذكر في باب ضرب يضرب معناه الليونة ، تقول : هش الخبز هشوشة إذا لان .

والذي ذكره في باب علم يعلم معناه : الارتياح ، وقال الجوهري : وقد هششت لفلان -بالكسر- أهش هشاشة إذا خففت وارتحت له .

قوله : "أرأيت " أي أخبرني .

قوله : "ففيم " أصله ففيما و"ما " استفهامية دخلت عليها حرف الجر ، ومعناه : ففيما فرقك بين الحكمين ، يعني : فلأجل أي شيء تفرق بينها إذا تمضمضت بالماء وأنت صائم ، وبين ما إذا قبلت وأنت صائم ، يعني لا فرق بينهما في أن كلا منهما لا ينتقص الصوم .

قال الخطابي : وفيه إثبات القياس ، والجمع بين الحكمين في الحكم الواحد ; لاجتماعهما في الشبه ، وذلك أن المضمضة بالماء ذريعة لنزوله إلى الحلق والجوف فيكون به فساد الصوم ، كما أن القبلة ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم ، نقول : فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر ؟ فالآخر بمثابته ، انتهى .

وكلمة "في " للتعليل نحو قوله تعالى : فذلكن الذي لمتنني فيه وقوله - عليه السلام - : "إن امرأة دخلت النار في هرة " .

[ ص: 493 ] وأما "فمه ؟ " في رواية أبي داود فالهاء فيه للسكت .

قوله : "مع أنه قد يجوز . . . إلى آخره " إشارة إلى جواب آخر بطريق التنزل ، تقريره أن يقال : إن حديث أبي يزيد الضني وإن كان صحيحا ولكنه محمول على معنى يخالف معنى حديث عمر - رضي الله عنه - ; لأن معنى حديث عمر : أن القبلة لا تفطر لكونه ممن يضبط نفسه ولا يخاف عليه حصول شيء معها مما هو يضره ، ومعنى حديث أبي يزيد : أنه جواب من النبي - عليه السلام -عن سؤال سئل في صائمين معينين حصلت بينهما قبلة على عدم ضبطهما لأنفسهما ، فقال : إذا كانت قبلة بين مثلهما يدعو ذلك إلى وقوع شيء آخر مما يفسد صومهما ، فلذلك قال في حقهما : "أفطرا " .

فإذا كان معنى كل من الحديثين على ما ذكرنا لا يكون بينهما تضاد لأن شرط التضاد اتحاد المحل ، فهذا أولى ما يحمل عليه حتى يرتفع التضاد والخلاف والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية