صفحة جزء
3756 ص: حدثنا يونس ، قال : ثنا وهيب ، قال : أخبرني مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - عليه السلام - قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحداءة ، والعقرب ، والفأرة ، ، والكلب العقور" . .

حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا شعيب بن الليث ، قال : ثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .


ش: هذان طريقان صحيحان ، ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعا ، وأخرجه البخاري : عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك .

[ ص: 276 ] ومسلم : عن يحيى ، عن مالك .

وأخرجه النسائي : عن قتيبة بن سعيد ] ، قال : نا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أن رسول الله - عليه السلام - أذن في قتل خمس من الدواب للمحرم : الغراب ، والحداءة ، والفأرة ، والكلب العقور ، والعقرب" .

قوله : "جناح" أي إثم وحرج .

قوله : "الغراب" أي أحدها الغراب ، قال أبو المعالي : هو واحد الغربان ، وجمع القليل : أغربة ، ويجمع على غرب أيضا ، وفي "الجامع" ويجمع على أغرب أيضا ، وفي "المحكم" غرابين جمع الجمع ، وقيل : سمي غرابا لأنه نأى واغترب لما نوح - عليه السلام - يستخبر أمر الطوفان ، وفي كتاب "الحيوان" للجاحظ : الغراب الأبقع غريب ، وهو غراب البين ، وكل غراب فقد يقال له : غراب البين إذا أرادوا به الشؤم إلا غراب البين نفسه ، فإنه غراب صغير ، وإنما قيل لكل غراب : غراب البين لسقوطه في مواضع منازلهم إذا بانوا ، وناس يزعمون أن تسافدها على غير تسافد الطير وأنها تزاق بالمناقير وتلقح من هنالك ، وفي "الموعب" الغراب الأبقع هو الذي في صدره بياض ، وفي "المحكم" غراب أبقع يخالط سواده بياض ، وهو أخبثها ، وبه يضرب المثل لكل خبيث ، وقال أبو عمر : هو الذي في بطنه وظهره بياض ، وذكر صاحب "الهداية" : المراد بالغراب آكل الجيف ، وهو الأبقع ، روي ذلك عن أبي يوسف .

قوله : "والحداءة" بكسر الحاء وبعد الدال ألف ممدودة بعدها همزة مفتوحة ، وجمعها "حدء" مثل عنب و "حدان" كذا في "الدستور" وقال الجوهري : ولا يقال : حداه ، وفي "المطالع" الحداءة لا يقال فيها إلا بكسر الحاء ، وقد جاء الحداء يعني بالفتح وهو جمع حداءة أو مذكرها ، وجاء الحديا على وزن الثريا .

[ ص: 277 ] قوله : "والعقرب" قال ابن سيده : "العقرب" للأنثى : عقربة ، والعقربان للذكر منها ، وفي "المنتهى" : الأنثى "عقرباء" ممدود غير مصروف ، وقيل : "العقربان" دويبة كثيرة القوائم غير العقرب ، وعقربة شاذة ، ومكان معقرب بكسر الراء - ذو عقارب ، وأرض معقربة ، وبعضهم يقول : معقرة كأنه رد العقرب إلى ثلاثة أحرف ، ثم بنى عليه ، وفي "الجامع" : ذكر العقارب عقربان والدابة الكثيرة القوائم عقربان بتشديد الباء .

قوله : "والفأرة" واحدة الفئران والفئرة ، ذكره ابن سيده ، وفي "الجامع" : أكثر العرب على همزها .

قوله : "الكلب العقور" ذكر أبو عمر : أن ابن عيينة قال : هو كل سبع يعقر ، ولم يخص الكلب ، قال سفيان : وكذا فسره لنا زيد بن أسلم ، وكذا قال أبو عبيد ، وعن أبي هريرة : الكلب العقور الأسد ، وعن مالك : هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم ، مثل : الأسد والنمر والفهد ، فأما ما كان من السباع لا يعدو ، مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه ، وزعم النووي أن العلماء اتفقوا على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم ، واختلفوا في المراد به ، فقيل : هو الكلب المعروف ، حكاه عياض عن أبي حنيفة والأوزاعي والحسن بن حي ، وألحقوا به الذئب ، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده ، وذهب الشافعي والثوري وأحمد وجمهور العلماء إلى أن المراد كل مفترس غالبا . قال أبو المعاني : جمع الكلب أكلب وكلاب وكليب وهو جمع عزيز لا يكاد يوجد إلا القليل نحو عبد وعبيد ، وجمع الأكلب أكالب ، وفي "المحكم" وقد قالوا في جمع كلاب : كلابات ، والكالب كالجامل جماعة الكلاب ، والكلبة أنثى الكلاب وجمعها كلبات ولا يكسر .

واستفيد من الحديث :

جواز قتل هذه الخمسة من الدواب للمحرم ، فإذا أبيح للمحرم فللحلال بالطريق الأولى ، أما الغراب فقد قلنا المراد به الأبقع وهو الذي يأكل الجيف ، كما قال صاحب "الهداية" وقال القرطبي : هذا تقييد لمطلق الروايات التي ليس فيها [ ص: 278 ] الأبقع ، وبذلك قالت طائفة ، فلا يجيزون إلا قتل الأبقع خاصة ، وطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان ، ورأوا أن ذكر الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب .

قلت : روى مسلم عن ابن مثنى وابن بشار ، كلاهما عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : والحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدئا" فالروايات المطلقة محمولة على هذه الرواية المقيدة ، وذلك لأن الغراب إنما أبيح قتله لكونه يبتدئ بالأذى ولا يبتدئ بالأذى إلا الغراب الأبقع ، أما الغراب غير الأبقع فلا يبتدئ بالأذى فلا يباح قتله كالعقعق وغراب الزرع ، ولأن الغراب الأبقع يأكل الجيف ويقع على وبر البعير وصاحبه قريب منه بخلاف غيره فإنه لا يأكل الجيف .

فإن قيل : قال ابن بطال : هذا الحديث لا يعرف إلا من حديث سعيد ولم يروه عنه غير قتادة وهو مدلس ، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم هذا القيد ، مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة - رضي الله عنهم - فلا حجة فيه حينئذ .

قلت : هذا الذي ذكره ليس بعلة يرد بها الحديث .

وقوله : "مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة " غير صحيح إذ لا معارضة بين الحديثين وإنما هما مطلق ومقيد ، فحمل المطلق على المقيد كما ذكرنا ، وقال ابن بطال أيضا : روى عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : لا يقتل الغراب ولكن يرمى قال : وهذا خلاف السنة .

قلت : روي عن محمد بن الحنفية ، عن علي - رضي الله عنه - : "يقتل الغراب الأبقع ، ويرمى الغراب تخويفا ، وأما الغراب الذي يأكل الزرع فهو الذي يرمى ولا يقتل ، وهو الصفة الذي استثناه مالك من جملة الغربان ، قال القشيري : في قتله قولان للمالكية : أشهرها القتل لعموم الحديث ، وأما منع القتل فإنه اعتبر الصفة التي علل [ ص: 279 ] بها القتل وهو الفسق على ما يشهد به إيماء اللفظ ، وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة ، والحكم يزول بزوال علته ، وعن أبي مصعب فيما ذكره ابن العربي : في الغراب والحدأة وإن لم يبدءا بالأذى ويؤكل لحمهما عند مالك ، وروي عنه المنع في المحرم سدا لذريعة الاصطياد ، قال أبو بكر : وأصل المذهب ألا يقتل من الطير إلا ما آذى بخلاف غيره فإنه يقتل ابتداء ، وقال أبو عمر : الأبقع من الغربان الذي في ظهره وبطنه بياض ، وكذلك الكلب الأبقع أيضا ، والغراب الأذرع ، والذرعى هو الأسود ، والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين وكذلك الوعل عصمته بياض في رجليه ، وقال مجاهد : يرمي الغراب ولا يقتله ، وقال به قوم ، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري : "أن النبي - عليه السلام - سئل عما يقتله المحرم ، فقال : الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله" وقال أبو عمر : حديث عبد الرحمن بن [أبي أنعم] عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - أنه قال في الغراب : "يرميه المحرم ولا يقتله" فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر وسالم عن ابن عمر أنه أباح للمحرم قتل الغراب ، وقال أبو عمر : احتج من كره أكل الغراب وغيره من الطير التي تأكل الجيف ومن كره أكل هوام الأرض أيضا بحديث النبي - عليه السلام - هذا "أنه أمر بقتل الغراب والحدأة والعقرب والحية والفأرة" ، قال : وكل ما أمر رسول الله - عليه السلام - بقتله فلا يجوز أكله ، هذا قول الشافعي وأبي ثور وداود ، وقال مالك : لا بأس بأكل سباع الطير كلها ، الرخم والنسور والعقبان وغيرها ، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل ، قال : ولا بأس بأكل لحوم الدجاج الجلالة وكل ما يأكل الجيف ، وهو قول الليث بن سعد ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد ، وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم ، وقال مالك : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت ، وهو قول : ابن أبي ليلى والأوزاعي ، إلا أنهما لم يشترطا فيها الزكاة ، وقال ابن القاسم عن مالك : لا بأس بأكل الضبع (*) ، وقال ابن القاسم : لا بأس بأكل [ ص: 280 ] خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك ، وقال مالك : لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه ، وأما الحداءة فإنه يجوز قتلها سواء كان للمحرم أو للحلال لأنها تبتدئ بالأذى وتخطف اللحم من أيدي الناس ، وروي عن مالك في الحداءة والغراب أنه لا يقتلهما المحرم إلا أن يبتدئا بالأذى ، والمشهور من مذهبه خلافه ، وأما العقرب فإنه يجوز قتله مطلقا حتى في الصلاة ، لأنه يقصد اللدغ ويتبع الحس ، وذكر أبو عمر عن حماد بن أبي سليمان والحكم أن المحرم لا يقتل الحية ولا العقرب . رواه عنهما شعبة ، قال : وحجتهما أنهما من هوام الأرض ، وقال القاضي : لم يختلف في قتل الحية والعقرب ، ولا في قتل الحلال الوزغ في الحرم وقال أبو عمر : لا خلاف عند مالك وجمهور العلماء في قتل الحية والعقرب في الحل والحرم وكذلك الأفعى .

وأما الفأرة فإنه يجوز قتلها مطلقا ، وقال ابن المنذر : لا خلاف بين العلماء في جواز قتل المحرم الفأرة ، إلا النخعي فإنه منع المحرم من قتلها ، وهو قول شاذ ، وقال القاضي : وحكى الساجي عن النخعي أنه لا يقتل المحرم الفأرة فإن قتلها فداها ، وهذا خلاف النص ، فافهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية