صفحة جزء
3999 ص: قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فذهب أبو حنيفة -رضي الله عنه- إلى أن في هذا الحديث دلالة على أن الليل والنهار وقت واحد للرمي، فقال: إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم النحر، ثم رماها بعد ذلك في الليلة التي بعدها فلا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من غد رماها وعليه دم، لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ، وخالفه في ذلك أبو يوسف 5 ومحمد -رحمهما الله- فقالا: إذا ذكرها في شيء

[ ص: 66 ] من أيام الرمي رماها ولا شيء عليه غير ذلك من دم ولا غيره، وإن لم يذكرها حتى مضت أيام الرمي فذكرها لم يرمها وكان عليه في تركها دم.


ش: استدل أبو حنيفة بالحديث المذكور على أن الليل وقت للرمي كالنهار، فقال: لو رمى جمرة العقبة في الليلة التي بعدها يوم النحر جاز ولا شيء عليه، وإن أخرها من هذه الليلة حتى أصبح من اليوم الثاني رماها ولكن عليه دم لتأخيره إياها عن وقتها.

وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه.

والخلاف يرجع في ذلك إلى أن الرمي مؤقت عند أبي حنيفة، وعندهما ليس بمؤقت، حتى لا يجب الدم عندهما إلا بتأخيره عن أيام الرمي كلها، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وذكر في شرح "الموطإ" للإشبيلي، وقال الشافعي: من أخر أو نسي شيئا من الرمي أيام منى قضى ذلك أيام منى، فإن مضت أيام منى ولم يرم أراق دما إن كان الذي ترك ثلاث حصيات، وإن كان أقل تصدق عن كل حصاة بمد، وقال الزهري وعطاء بن أبي رباح: من نسي أن يرمي نهارا فليرم ليلا، فإن مضت أيام منى أهراق دما، وقال عطاء: إذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق فقد انقطع الرمي، وقد روي أن الرمي يفوت بطلوع الفجر في آخر أيام التشريق، وهي رواية شاذة، وقال عروة: من فاته الرمي بالنهار لم يرم ليلا وأخره إلى الغد؛ لأنه لما أرخص النبي -عليه السلام- للرعاء في الرمي ليلا دل على أن الرمي بالنهار أفضل.

وقال مالك: إن رمى جمرة العقبة بعد الغروب فأحب إلي أن يهريق دما، وإن أخرها إلى أيام التشريق كان عليه هدي، وسئل مالك عمن نسي رمي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها، فإن كان ذلك بعذر بعدما صدر وهو بمكة، أو بعدما يخرج منها فعليه هدي، وفي "الأحكام" لابن بزيزة: رمي جمرة العقبة هل هو ركن أم لا؟ فيه قولان، والمشهور أن من حج ولم يرمها فحجه

[ ص: 67 ] صحيح ويؤمر بالرمي ما لم تفت أيام الرمي، والشاذ بطلان حجه، وبه يقول عبد الملك، وإذا ترك الرمي عند الجمرة الأولى والوسطى، فهل يعيد ما بعدها إذا أداها أو إنما يعيد المتروك فقط؟ فيه قولان، والمشهور أن الترتيب غير واجب، وإذا ترك حصاة واحدة فهل يعيد الجمرة كلها أو يرمي حصاة واحدة فقط؟ فيه قولان في المذهب، والأقيس أن يعيد الحصاة وحدها، وقيل: يعيد الجمرة كلها، وفيه قول ثالث: أنه إذا تذكرها يوم الأداء أعاد الجمرة وحدها، وإن تذكرها يوم القضاء أعاد الجمرة من أصلها، وإذا ترك حصاة ولم يدر موضعها، فقيل: لا يعيد شيئا، وقيل: يجعل الجميع عن واحدة، وقال أهل الظاهر: من ترك رمي الجمار فلا شيء عليه.

فإن قيل: كيف يستدل أبو حنيفة -رحمه الله-: بالحديث المذكور وهو ضعيف كما بيناه؟!.

قلت: روي الحديث المذكور من طرق متعددة عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- فيشد ما ضعف منها بما قوي، فيصح الاحتجاج حينئذ.

وأخرج الطبراني في "الكبير": ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا خالد ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي قرة ، عن عطاء ، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا ليلا".

وأخرج البيهقي في "سننه": من حديث الصغاني، ثنا عبد الأعلى بن حماد، ثنا مسلم بن خالد ، عن عبد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا بالليل".

قال الذهبي: مسلم لين.

[ ص: 68 ] وقال مالك في "موطئه": حدثني يحيى بن سعيد ، عن عطاء بن أبي رباح، أنه سمعه يذكر "أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل".

وقال الإشبيلي في "شرحه": روى الحديث المذكور يحيى القطان ، عن مالك بإسناده: "أنه -عليه السلام- رخص للرعاء في البيتوتة، يرمون يوم النحر واليومين اللذين بعده، يجمعونها في أحدهما".

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا ليلا".

وثئا حماد بن خالد ، عن ابن أبي ذئب ، عن عطاء: "أن عمر -رضي الله عنه- رخص للرعاء أن يبيتوا عن منى، قال: فذكرت ذلك [للزهري فقال]: الرعاء يرمون ليلا ولا يبيتون".

وفي "الأحكام" لابن بزيزة: وقد صح أن رسول الله -عليه السلام- رخص لرعاة الإبل أن يرموا ليلا وأن يرموا من الغد.

التالي السابق


الخدمات العلمية