صفحة جزء
4473 ص: وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فقالوا: الذي أمر به العباد من إيقاع الطلاق فهو كما ذكرتم إذا كانت المرأة طاهرا من غير جماع، أو حاملا وأمروا بتفريق الثلاث إذا أرادوا إيقاعهن ولا يوقعهن معا، فإذا خالفوا ذلك فطلقوا في الوقت [ ص: 46 ] الذي لا ينبغي لهم أن يطلقوا فيه وأوقعوا الطلاق أكثر مما أمروا بإيقاعه؛ لزمهم ما أوقعوا من ذلك، وهم آثمون في تعديهم ما أمرهم الله به، وليس ذلك كالوكالات؛ لأن الوكلاء إنما يفعلون ذلك للموكلين فيحلون في أفعالهم تلك محلهم، فإن فعلوا ذلك كما أمروا لزم، وإن فعلوا ذلك على غير ما أمروا لم يلزم، والعباد في طلاقهم إنما يفعلونه لأنفسهم لا لغيرهم، ولا يحلون في فعلهم ذلك محل غيرهم، فيراد منهم في ذلك إصابة ما أمرهم به الذين يحلون في فعلهم ذلك محله.

فلما كان ذلك كذلك لزمهم ما فعلوا وإن كان ذلك مما قد نهوا عنه لأنا قد رأينا أشياء مما قد نهى الله العباد عن فعلها أوجبت عليهم إذا فعلوها أحكاما، من ذلك: أنه نهاهم عن الظهار ووصفه بأنه منكر من القول وزور، ولم يمنع ما كان كذلك أن تحرم به المرأة على زوجها حتى يفعل ما أمره الله به من الكفارة.

فلما رأينا الظهار قولا منكرا وزورا ولقد لزمت به حرمة؛ ، كان كذلك الطلاق المنهي عنه هو منكر من القول وزور، والحرمة به واجبة.

وقد رأينا رسول الله -عليه السلام- لما سأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن طلاق عبد الله امرأته وهي حائض، أمره بمراجعتها، وتواترت عنه بذلك الآثار، وقد ذكرناها في الباب الأول، ولا يجوز أن يؤمر بالمراجعة من لم يقع طلاقه، فلما كان النبي -عليه السلام- قد ألزمه الطلاق في الحيض -وهو وقت لا يحل إيقاع الطلاق فيه- كان كذلك من طلق امرأته ثلاثا، فأوقع كل الطلاق في وقت بعضه دون ما بقي منه؛ لزمه في ذلك ما ألزم نفسه وإن كان فعله على خلاف ما أمر به، فهذا هو النظر في هذا الباب.


ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم: الأوزاعي والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وآخرون كثيرون، فإنهم قالوا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاث طلقات وقعن ولكنه يأثم، أما وقوعه فلأن الطلاق في نفسه مشروع ما فيه حظر وإنما [ ص: 47 ] الحظر في غيره، وهو كون إيقاع الثلاث في طهر واحد بدعة لمخالفته السنة، فوقع الطلاق وأثم لذلك، فصار كالبيع وقت أذان الجمعة، والصلاة في الأرض المغصوبة.

والقياس على الوكالة فاسد؛ لأن الوكيل قائم مقام موكله فإن فعل كما أمر به لزم، وإن خالف لم يلزم للمخالفة.

قوله: "وإن كان فعله على خلاف ما أمر به" وذلك لأن المأمور به أن يطلقها للسنة وهو الذي أذن الله فيه للعدة كما قال: فطلقوهن لعدتهن أي في قبل عدتهن كما ذكرنا.

ثم اختلفوا في طلاق السنة، فقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وسائر أهل الكوفة: من أراد أن يطلق امرأته للسنة طلقها حين تطهر من حيضها قبل أن يجامعها طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت طلقها أخرى، ثم يدعها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت طلقها ثالثة، فبالثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره.

وقال مالك وأصحابه: طلاق السنة أن يطلق طلقة في طهر لم يمسها فيه -ولو كان في آخر ساعة منه- ثم يمهلها حتى تنقضي عدتها وذلك بظهور أول الحيضة الثالثة في الحرة، أو الحيضة الثانية في الأمة، فيتم للحرة ثلاثة أقراء وللأمة قرآن، فإن طلقها في كل طهر تطليقة، أو طلقها ثلاثا مجتمعات في طهر لم يمسها فيه؛ فقد لزم، وليس بمطلق للسنة. وهو قول الأوزاعي وأبي عبيد القاسم بن سلام .

وقال الشافعي وأحمد وداود: ليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة في وقت الطلاق، فإذا أراد أن يطلق امرأته للسنة أمهلها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت طلقها من قبل أن يجامعها كم شاء، إن شاء واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، أي ذلك فعل فهو مطلق للسنة.

[ ص: 48 ] وأجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو في المدخول بها، وأما غير المدخول بها فليس في طلاقها سنة ولا بدعة؛ لأنه لا عدة عليهن.

وقال أشهب: لا يطلقها وإن كانت غير مدخول بها حائضا.

وقال ابن القاسم: يطلقها متى شاء وإن كانت حائضا، وعليه الناس.

ولا خلاف بينهم في الحامل أن طلاقها للسنة من أول الحمل إلى آخره؛ لأن عدتها أن تضع ما في بطنها.

التالي السابق


الخدمات العلمية