صفحة جزء
6821 [ ص: 394 ] ص: ولا حجة عندنا على أهل هذه المقالة في حديث ابن عباس الذي ذكرناه، فإنه يجوز أن يكون الذي كره رسول الله -عليه السلام- في القسم لأبي بكر - رضي الله عنه - من أجله، هو أن التعبير الذي صوبه في بعضه وخطأه في بعضه لم يكن ذلك منه من جهة الوحي، ولكن من جهة ما يعبر له الرؤيا، كما نهى أن توطأ الحوامل على الإشفاق منه أن يضر ذلك أولادهم، فلما بلغه أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم أطلق ما كان حظر من ذلك، وكما في تلقيح النخل: ما أظن أن ذلك يغني شيئا، فتركوه ونزعوا عنه، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- فقال: "إنما هو ظن ظننته، إن كان يغني شيئا فليصنعوه، فإنما أنا بشر مثلكم وإنما هو ظن ظننته، والظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت: قال الله -عز وجل-، فلن أكذب على الله".

حدثنا بذلك يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر ، قال: ثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه .

فأخبر رسول الله -عليه السلام- أن ما قاله من جهة الظن فهو فيه كسائر البشر في ظنونهم، وأن الذي يقوله عن الله -عز وجل-، فهو الذي لا يجوز خلافه، وكانت الرؤيا إنما تعبر بالظن والتحري.

وقد روي ذلك عن محمد بن سيرين: ، واحتج بقول الله -عز وجل-: وقال للذي ظن أنه ناج منهما فكما كان التعبير من هذه الجهة التي لا حقيقة فيها؛ كره رسول الله -عليه السلام- لأبي بكر - رضي الله عنه - أن يقسم عليه؛ ليخبره بما يظنه صوابه على أنه عنده كذلك، وقد يكون في الحقيقة بخلافه.

ألا ترى أن رجلا لو نظر في مسألة من الفقه واجتهد، فأدى اجتهاده إلى شيء، وسعه القول به ورد ما خالفه وتخطئة قائله، إذ كانت الدلائل التي بها يستخرج الجواب في ذلك دامغة له، ولو حلف على أن ذلك الجواب صواب كان مخطئا، لأنه لم يكلف إصابة الصواب، فيكون ما قاله هو الصواب ولكنه كلف الاجتهاد، فقد يؤديه [ ص: 395 ] الاجتهاد إلى الصواب، وإلى غير الصواب، فمن هذه الجهة كره رسول الله -عليه السلام- لأبي بكر - رضي الله عنه - الحلف عليه ليخبره بصوابه ما هو؟ لا من جهة كراهية القسم.


ش: أراد أن حديث ابن عباس الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه ليس مما يلزم به أهل المقالة الثانية، وبين ذلك بقوله: "فإنه يجوز أن يكون .. إلى آخره" ومبنى هذا الكلام على رأي أهل السنة والجماعة: أن المجتهد يخطئ ويصيب خلافا للمعتزلة في أن كل مجتهد مصيب، وأن الرأي قد يقع فيه الغلط في حقه -عليه السلام-، وفي حق غيره.

ألا ترى أن الصحابة قد خالفوه في بعض الرأي غير مرة، واستصوبهم -عليه السلام- في ذلك، فمن ذلك أنه لما أراد النزول يوم بدر دون الماء، قال له الحباب بن المنذر: "إن كان عن وحي فسمعا وطاعة، وإن كان عن رأي فإني أرى الصواب أن ننزل على الماء ونتخذ الحياض، فأخذ رسول الله -عليه السلام- برأيه ونزل على الماء".

ومن ذلك أنه لما أراد يوم الأحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا، قام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا: "إن كان هذا عن وحي فسمعا وطاعة، وإن كان عن رأي فلا نعطيهم إلا السيف، قد كنا نحن وهم في الجاهلية، لم يكن لنا ولا لهم دين، وكانوا لا يطمعون في ثمار المدينة إلا بشراء أو قرى، فإذا أعزنا الله تعالى بالدين نعطيهم أموالنا؟! لا نعطيهم إلا السيف، وقال - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، فأردت أن أصرفهم عنكم، فإذا أبيتم [فأنتم] وذاك، ثم قال للذين جاءوا للصلح: اذهبوا فلا نعطيكم إلا السيف".

ومن ذلك أنه -عليه السلام- نهى أن توطأ الحوامل، خوفا منه أن يضر ذلك أولادهم، ثم لما بلغه أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يحصل الضرر لأولادهم، أطلق ما كان منع من ذلك.

[ ص: 396 ] ومن ذلك: "أنه -عليه السلام- لما قدم المدينة استقبح ما كانوا يصنعونه من تلقيح النخل، فنهاهم عن ذلك فأحشفت، وقال: عهدي بثماركم بخلاف هذا؟! فقالوا: نهيتنا عن التلقيح، وإنما كانت جودة الثمر من ذلك، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأنا أعلم بأمر دينكم". وفي رواية الطحاوي: "إنما هو ظن ظننته، إن كان يغني شيئا. . . ." إلى آخره.

أخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن سماك بن حرب ، عن موسى بن طلحة التيمي المدني ، عن أبيه طلحة بن عبيد الله التيمي المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة.

وأخرجه ابن ماجه: عن علي بن محمد ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن [سماك أنه سمع] موسى بن طلحة ، عن أبيه، قال: "مررت مع رسول الله -عليه السلام- في نخل، فرأى قوما يلقحون النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال: يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى، قال: ما أظن ذلك يغني شيئا، فبلغهم فتركوه، فنزلوا عنها، فبلغ النبي -عليه السلام- فقال: إنما هو الظن، إن كان يغني شيئا فاصنعوه، فإنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله".

قالوا: فتبين من ذلك أن الرأي منه كالرأي من غيره في احتمال الغلط، ولكنه -عليه السلام- لا يقر إلا على الصواب، فإذا أقر على ذلك كان وحيا في المعنى وهو شبه الوحي في الابتداء، ولكن الشرط أن ينقطع طمعه عن الوحي، وهو نظير ما يشترط في حق الأمة للعمل بالرأي العرفي على الكتاب والسنة، فإذا لم يوجد في ذلك فحينئذ يصار إلى اجتهاد الرأي.

[ ص: 397 ] فإن قيل: قد قال الله تعالى في حقه: وما ينطق عن الهوى فكيف يجوز ما ذكرت؟

قلت: قد قيل: هذا فيما يتلو عليه من القرآن بدليل أول السورة قوله: والنجم إذا هوى أي والقرآن إذا نزل، وقيل: المراد بالهوى هو هوى النفس الأمارة بالسوء ولا أحد يجوز على رسول الله -عليه السلام- اتباع هوى النفس أو القول به.

ولكن طريق الاستنباط والرأي غير هوى النفس، وهذا تأويل قوله تعالى: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ثم في قوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلي توضيح جميع ما قلنا، لأن اتباع الوحي إنما يتم في العمل بما فيه الوحي بعينه، واستنباط المعنى منه لإثبات الحكم في نظيره، وذلك بالرأي يكون.

قوله: "يلقحون النخل" قد فسره بقوله: "يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى".

قوله: "إنما هو الظن" أي إن الذي قلت هو قول عن ظن لا عن يقين إذ لو كان قوله ذلك عن يقين لما قال لهم بعد ذلك: "فاصنعوه".

التالي السابق


الخدمات العلمية