صفحة جزء
6990 [ ص: 14 ] ص: قالوا : وقد روي في إباحة الشعر آثار ، فمنها : ما حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال : ثنا معن بن عيسى ، قال : حدثني عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " لما دخل رسول الله -عليه السلام - عام الفتح رأى نساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر ، فتبسم فقال : يا أبا بكر ، ، كيف قال حسان بن ثابت ؟ ؟ فأنشده أبو بكر : - رضي الله عنه - :

عدمت بنيتي إن لم . . . تروها تثير النقع من كتفي كداء

    ينازعن الأعنة مسرعات
. . . يلطمهن بالخمر النساء



هكذا حدثنا أحمد بن داود ، ، وأهل العلم بالعربية ، يروون البيت الأول على غير ذلك :

تثير النقع موعدها كداء .

حتى تستوي قافية هذا البيت مع قافية البيت الذي بعد . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ادخلوها من حيث قال " .


ش: أي قال أهل المقالة الثانية : قد روي في إباحة قول الشعر وإنشاده أحاديث وآثار كثيرة ، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمر .

أخرجه بإسناد صحيح ، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - .

وهذا الحديث فيه دلالة صريحة على إباحة إنشاد الشعر وروايته وسماعه ، ألا ترى كيف قال -عليه السلام - : "يا أبا بكر ، كيف قال حسان بن ثابت ؟ " ثم أنشد أبو بكر - رضي الله عنه - ما قاله حسان ، في قوله :

عدمت بنيتي

. . . . إلى آخره
. وهذان البيتان من قصيدة ساقها كلها مسلم في "صحيحه " : ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، قال : أخبرني أبي ، عن جدي ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، قال : حدثني سعيد بن أبي هلال ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "اهجوا قريشا ; فإنه أشد عليها من رشق بالنبل ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : اهجهم ، فهجاهم ، فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه ،

[ ص: 15 ] قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله -عليه السلام - : لا تعمل ; فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسبا يلخص لك نسبي ، فأتاه حسان ثم رجع فقال : يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فسمعت رسول الله -عليه السلام - يقول لحسان : إن روح القدس لا تزال تؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله .

وقالت : سمعت رسول الله -عليه السلام - يقول : هجاهم حسان فشفى واستشفى ، قال حسان :


هجوت محمدا فأجبت عنه . . .     وعند الله في ذاك الجزاء


هجوت محمدا برا حنيفا . . .     رسول الله شيمته الوفاء


فإن أبي ووالده وعرضي . . .     لعرض محمد منكم وقاء


ثكلت بنيتي إن لم تروها . . .     تثير النقع من كنفي كداء


ينازعن الأعنة مصعدات . . .     على أكتافها الأسل الظماء


تظل جيادنا متمطرات . . .     تلطمهن بالخمر النساء


فإن أعرضتم عنا اعتمرنا . . .     وكان الفتح وانكشف الغطاء


وإلا فاصبروا لضراب يوم . . .     يعز الله فيه من يشاء


وقال الله قد أرسلت عبدا . . .     يقول الحق ليس به خفاء


وقال الله قد أرسلت جندا . . .     هم الأنصار عزمتها مضاء


لنا في كل يوم من معد . . .     سباب أو قتال أو هجاء


فمن يهجو رسول الله منكم . . .     ويمدحه وينصره سواء


وجبريل رسول الله فينا . . .     وروح القدس ليس لنا كفاء



[ ص: 16 ] وهذه القصيدة من بحر الوافر ، وأصله مفاعلتن ست مرات ، وله عروضان وثلاثة أضرب :

الأولى : مقطوفة : ولها ضرب واحد مثلها .

والثانية : مجزوءة : ولها ضربان ، أحدهما مجزوء مثلها والآخر معصوب ، والقصيدة من العروض الأولى التي لها ضرب واحد فافهم ، فإنه لا يخفى عليك أن اطلعت في علم العروض ، وتقطيع البيت الأول هكذا :

هجوت محم / مدا فأجب / ت عنه . . . وعند اللا /ـه في ذاك الـ / جزاء

مفاعلتن / مفاعلتن / فعول . . . مفاعلتن / مفاعلتن / فعول

وفيه العصب والقطف "العصب " بالمهملتين هو تسكين الخامس المتحرك فيبقى مفاعللن بسكون اللام فينقل إلى مفاعلن ، و"القطف " : الحذف بعد العصب حتى يصير مفاعل فيرد إلى فعولن .

قوله : "هجوت مباركا برا " وفي بعض الروايات : هجوت محمدا برا ، والبر : الصادق .

قوله : "حنيفا " أي : مائلا عن الأديان إلى دين الإسلام .

قوله : "شيمته " بكسر الشين المعجمة أي : خلقه .

قوله : "وقاء " بكسر الواو وفتحها ، وهو ما وقيت به شيئا ، من وقى يقي ، يقال : وقاه الله وقاية -بالكسر - أي : حفظه . قوله : "ثكلت بنيتي " من الثكل ، وهو فقدان المرأة ولدها ، وكذلك الثكل بالتحريك ، وامرأة ثاكل وثكلى ، وثكلته أمه ثكلا ، وأثكله الله أمه . وفي رواية الطحاوي : "عدمت بنيتي " ومعناهما واحد . والبنية : تصغير بنت .

قوله : "إن لم تروها " وهي الخيول .

"تثير النقع " ، أي الغبار ، وإثارته نشره وإظهاره في الجو .

[ ص: 17 ] قوله : "من كنفي كداء " أي من ناحية كداء -وهو بفتح الكاف وبالمد - بأعلى مكة عند المقبرة ، ويسمى الناحية المعلى وهنالك المحصب ، وليس بمحصب منى ، وكان باب بني شيبة بإزاء ، وكدا بالقصر والضم مصروفا ، هو بأسفل مكة ، وهو بقرب شعب الشافعيين ، وابن الزبير عند قعيقعان ، وهناك موضع آخر يقال له : مصغر ، وإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن ، فهو في طريقه ، وليس من هذين المقدمين في شيء .

ثم اعلم أن هذا البيت إذا قرئ هكذا : تثير النقع من كنفي كداء ; يكون فيه إقواء وهو من عيوب الشعر . والإقواء هو اختلاف المجرى الذي هو حركة الروي بالضم والكسر والفتح ; وذلك لأن أواخر أبيات القصيدة كلها مرفوع ما خلا قوله : من كنفي كداء ، فإنه مجرور بالإضافة ، وهذا اختلاف كما ترى ، وقد نبه الطحاوي على الصحيح من الرواية بقوله : وأهل العلم بالعربية يروون البيت الأول على غير ذلك . . . . إلى آخره ، فإنهم يروون هكذا .


ثكلت بنيتي إن لم تروها . . .     تثير النقع موعدها كداء



فإنه على هذه الرواية تستقيم أبيات القصيدة ، ويرتفع الإقواء ; لارتفاع كداء بالخبرية عن قوله : "موعدها " أي موعد الخيول ، أراد موعد دخولها ناحية كداء .

قوله : "ينازعن الأعنة " وفي بعض الروايات : "يبارين الأعنة " من المباراة وهي المجاراة والمسابقة ، وفي رواية البيهقي في "سننه " : "تنازعن الأسنة " وهي جمع سنان الرمح ، و"الأعنة " جمع عنان الفرس ، والضمير في تنازعني يرجع إلى الخيول .

قوله : "مشرعات " حال من الضمير الذي في تنازعن ، وفي رواية : "مصعدات " ، وهي "الصحيحة " ومعناه مقبلات متوجهات نحوكم ، يقال صعد إلى فوق صعودا إذا طلع ، وأصعد في الأرض إذا مضى وسار .

قوله : "بالخمر " بضم الخاء المعجمة : جمع خمار المرأة .

[ ص: 18 ] وقوله : "النساء " مرفوع على أنه فاعل لقوله : "يلطمهن " .

قوله : "على الأسل الظماء " الأسل : الرماح ، وهو في الأصل نبات له أغصان دقاق طوال ، والظماء جمع ظامئ وهو العطشان ، جعل الرماح عطاشا إلى ورود الدماء ، استعارة فهي إلى ذلك أسرع ، كمسارعة العطشان إلى ورود الماء .

قوله :"تظل جيادنا " أي تقبل وتدنو منكم كأنها ألقت عليكم ظلها ، والجياد : الكرام من الخيول ، قال الجوهري : جاد الفرس أي صار رائعا ، يجود جودة -بالضم - فهو جواد ، للذكر والأنثى ، وخيل جياد وأجياد وأجاويد .

قوله : "متمطرات " نصب على الحال من جيادنا وهو من تمطر تمطرا إذا أسرع ، وكذا يقال : مطر الفرس يمطر مطرا ومطورا .

قوله : "عرضتها اللقاة " وفي بعض الروايات الصحيحة : عرضتها اللقاء ، يقال : فلان عرضة لكذا إذا كان مستعدا له متعرضا له .

قوله : "روح القدس " يقال لجبريل -عليه السلام - : روح القدس ; لأنه خلق في طهارة ، لأنه من التقديس وهو التطهير ، ومنه : الأرض المقدسة قيل : هي الشام وفلسطين ، وسمي بيت المقدس ; لأنه الموضع الذي يتقدس فيه من الذنوب ، ومن أسماء الله تعالى : القدوس ، وهو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص .

قوله : "كفاء " بكسر الكاف ، يقال : لا كفاء له : أي لا نظير له . ومنه الكفيء وهو النظير ، وكذلك الكفؤ والكفوء على وزن فعل وفعول ، والمصدر الكفاءة بالفتح والمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية