صفحة جزء
[ ص: 100 ] 7077 7078 ص: وعلى هذا المعنى -والله أعلم - رجع عمر - رضي الله عنه - بالناس من سرغ ، لا على أنه فار مما قد نزل بهم ; والدليل على ذلك :

أن ابن أبي داود ، قد حدثنا ، قال : ثنا علي بن عياش الحمصي ، قال : ثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " [اللهم] إن الناس نحلوني ثلاث خصال ، وأنا أبرأ إليك منهن : زعموا أني فررت من الطاعون وأنا أبرأ إليك من ذلك ، وأني أحللت لهم الطلاء وهو الخمر ، وأنا أبرأ إليك من ذلك ، و [أني] أحللت لهم : المكس وهو البخس ، وأنا أبرأ إليك من ذلك " .

فهذا عمر - رضي الله عنه - يخبر أنه يبرأ إلى . الله -عز وجل - أن يكون فر من الطاعون ، فدل ذلك أن رجوعه كان لأمر آخر غير الفرار ، وكذلك ما أراد بكتابه إلى أبي عبيدة - رضي الله عنه - أن يخرج هو ومن معه من جند المسلمين إنما هو لنزاهة الجابية ، وعمق الأردن ، . وقد بين أبو موسى في حديث شعبة ، المكروه في الطاعون ما هو ؟ وهو أن يخرج منه خارج فيسلم فيقول : سلمت لأني خرجت ، أو يهبط عليه هابط فيصيبه فيقول : أصابني لأني هبطت ، وقد أباح أبو موسى مع ذلك للناس أن يتنزهوا عنه إن أحبوا ، فدل على ما ذكرنا على التفسير الذي وصفنا .

فهذا معنى هذه الآثار عندنا والله أعلم .


ش: أي وعلى المعنى الذي ذكرنا وهو أن الخروج من الموضع الذي وقع فيه الوباء لا بأس به إذا كان لا للفرار منه ; رجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالناس من سرغ -بفتح السين وسكون الراء المهملتين وبغين معجمة - وروي بفتح [الراء] أيضا ، وقد ذكرنا أنها قرية بوادي تبوك من طريق الشام ، ولم يكن رجوع عمر منها على أنه فر من الذي قد نزل بأهل الشام من الوباء .

[ ص: 101 ] فإن قيل : لا نسلم أن رجوعه كان لغير الفرار من الوباء ، ألا ترى أنه لما قال له أبو عبيدة : "أفرارا من قدر الله ؟ قال له : نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله " .

قلت : لدفع هذا السؤال : قال الطحاوي : والدليل على ذلك أي على أن رجوع عمر بالناس لم يكن فرارا عن الوباء ; أن ابن أبي داود قد حدثنا . . . . إلى آخره .

وقوله : "الدليل " مبتدأ .

وقوله : "أن ابن أبي داود " في محل الرفع خبره . وهو إبراهيم البرلسي ، يحدث عن علي بن ياش -بالياء المشددة وبالشين المعجمة - بن مسلم الألهاني الحمصي شيخ البخاري ، عن شعيب بن أبي حمزة . . إلى آخره .

وهو إسناد صحيح .

وقد صرح فيه أنه تبرأ من قول الناس : فر عمر من الطاعون ، حيث قال : أبرأ إلى الله من ذلك .

وقال أبو عمر : لم يبلغني أن أحدا من أهل العلم فر من الطاعون إلا ما ذكر المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه فطعن فمات بالسيالة ، قال : وهرب عمرو بن عبيد ، ورباط بن محمد بن رباط إلى الرباطية ، فقال إبراهيم بن علي القعنبي :


ولما استفز الموت كل مكذب . . . صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو



وقال المدائني : ولما وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان ، خرج هاربا ، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها : سكر ، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك ، فقال له عبد العزيز : ما اسمك ؟ قال : طالب بن مدرك ، فقال : أوه ، ما أراني راجعا إلى الفسطاط ، فمات في تلك القرية .

[ ص: 102 ] قوله : "إن الناس نحلوني " بالنون والحاء المهملة ، من نحلته القول أنحله -بالفتح - إذا أضفت إليه قولا قاله غيره ، وادعيته عليه ، ومنه انتحل فلان شعر غيره إذا ادعاه لنفسه ، وتنحله مثله .

وقوله : "الطلاء " بكسر الطاء وبالمد ، وهو الشراب المطبوخ من عصير العنب ، وهو الرب ، وأصله القطران الخاثر الذي تطلى به الإبل .

وقوله : "وهو الخمر " أي الطلاء هو الخمر وإنما أطلق عليه الخمر لكونهم كانوا يشربون المسكر ويقولون : إنه طلاء إنما أباحه عمر - رضي الله عنه - فلأجل ذلك برئ إلى الله -عز وجل - من ذلك .

وقد جاء في الحديث عن النبي -عليه السلام - : "لتشربن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه " .

رواه ابن أبي شيبة : عن علي بن مسهر ، عن الشيباني ، عن أبي بكر بن حفص ، عن ابن محيريز ، عنه -عليه السلام - .

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه " ثنا وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن فرات بن سليمان ، عن رجل من جلساء القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله -عليه السلام - : "أول ما يكفئ [أمتي عن] الإسلام بشراب يقال له : الطلاء " انتهى .

أراد به الخمر الذي يسمونه الطلاء ، وأما الطلاء الذي مباح شربه فهو ما إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حتى يصير كالرب ، وعن أنس - رضي الله عنه - : "أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة ، كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه " .

رواه ابن أبي شيبة : عن علي بن مسهر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس .

[ ص: 103 ] وقال ابن أبي شيبة أيضا ثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن داود بن أبي هند قال : "سألت سعيد بن المسيب عن الشراب الذي كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجازه للناس ؟ قال : هو الطلاء قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه " .

قوله : "المكس " هو الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار .

قوله : "وهو البخس " بالباء الموحدة ، والخاء المعجمة ، وفي آخره سين مهملة ، وفسر المكس به لأن البخس هو ما يأخذه الولاة باسم العشور والمكوس يتأولون فيه الزكاة والصدقة .

قوله : "وكذلك ما أراد " أي وكذلك كان مراد عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي عبيدة : "إن الأردن أرض عمق ، وإن الجابية أرض نزهة ، فانهض بالمسلمين إلى الجابية " يعني كان مراده أن يخرج هو ومن معه من المسلمين إلى الجابية لنزاهتها ويخرجوا من الأردن لعماقها ، ولم يكن ذلك لأجل الفرار من وقوع الوباء فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية