صفحة جزء
7153 7154 ص: ففي هذه الأخبار إباحة الكي للداء المذكور فيها ، وفي الآثار الأول النهي عن الكي ، فاحتمل أن يكون المعنى الذي كانت له الإباحة في هذه الآثار غير المعنى الذي كان له النهي في الآثار الأول ; وذلك أن قوما كانوا يكتوون قبل نزول البلاء بهم يرون أن ذلك يمنع البلاء أن ينزل بهم كما يفعل الأعاجم ، فهذا مكروه ; لأنه ليس على طريق العلاج ، وهو شرك ; ؛ لأنهم يفعلونه لدفع قدر الله عنهم ، فأما ما كان بعد نزول البلاء إنما يراد به العلاج ، والعلاج مباح مأمور به ، وقد بين ذلك جابر بن عبد الله في حديث رواه عن رسول الله -عليه السلام - :

حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا أبو عامر العقدي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن سليمان ، عن عاصم ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي -عليه السلام - قال : " إن يكن في شيء من أدويتكم هذه خير ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو [لذعة] نار توافق داء ، وما أحب أن أكتوي " . .

[ ص: 159 ] فإذا كان في هذا الحديث أن لذعة النار التي توافق الداء مباحة ، والكي مكروه ، وكانت اللدغة بالنار كية ; ثبت أن الكي الذي يوافق الداء مباح ، وأن الكي الذي لا يوافق الداء مكروه .


ش: أراد بهذه الأخبار : أحاديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وبعض أصحاب النبي -عليه السلام - ، وأشار بهذا الكلام إلى بيان وجه التوفيق بين أحاديث الفصلين ; لأن أحاديث الفصل الأول تنهى عن الكي ، وأحاديث الفصل الثاني تبيحه ، فبينهما تعارض ظاهرا ، وجه التوفيق بينها أن يقال : إن المعنى الذي أبيح بسببه الكي غير المعنى الذي نهي عنه من جهة مختلفة ، فاندفع التعارض ; لأن من شرط التعارض اتحاد الجهة ، وقد بين الطحاوي ذلك .

وقال الخطابي -رحمه الله - : الكي من العلاج الذي يعرفه العامة والخاصة ، والعرب تستعمل الكي كثيرا فيما يعرض لها من الأدواء ، ومن أمثالهم : آخر الطب : الكي .

فأما حديث عمران في النهي عنه فقد يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون : آخر الدواء الكي ، ويريدون أنه يحسم الداء ، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك ، فنهاهم عن ذلك إذا كان على هذا الوجه ، وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله سبحانه ، وطلب الشفاء ، والترقي للبرء وما يحدث الله من صنعه فيه ، وتخلفه من الشفاء على إثره ، وهو أمر قد يكثر شكوك الناس فيه وتخطئ فيه ظنونهم وأوهامهم ، فما أكثر ما تسمعهم يقولون : لو أقام فلان في أرضه وبلده لم يهلك ، ولو شرب الدواء لم يهلك ، ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب دون تسليط القضاء علينا ، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها ; قال الله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وقال حكاية عن الكفار : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا

[ ص: 160 ] وفيه وجه آخر : وهو أن يكون نهيه عن الكي : هو أن يفعله احترازا عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية ، وذلك مكروه ، وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة والضرورة إليه ، ألا ترى أنه كوى سعدا حين حاق عليه الهلاك من النزف ؟ وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع ، ألا تراه يقول : "ما أفلحنا ولا أنجحنا " وقد كان به الناسور ، ولعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن ، والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورا ، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس ذلك في بعض الأعضاء ، فيشبه أن يكون [النهي] منه صرفا إلى النوع المخوف منه . والله أعلم .

قوله : "وقد بين ذلك " أي ما ذكرنا من أن الكي بعد نزول البلاء لإرادة العلاج والتداوي ; مباح مأمور به .

وقوله : "حديث جابر " فاعل لقوله : "بين " .

وأخرجه بإسناد صحيح ، عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ، عن عبد الرحمن بن سليمان -هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة بن راهب المدني ، روى له الجماعة ، عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري المدني ، روى له الجماعة .

وأخرجه البخاري : عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعنا النبي -عليه السلام - يقول : "إن كان في شيء من أدويتكم -أو يكون في شيء من أدويتكم - خير ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لدغة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .

التالي السابق


الخدمات العلمية