صفحة جزء
7178 ص: وخالفهم في ذلك آخرون ، فلم يروا بها بأسا ، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، وإبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، عن النبي -عليه السلام - : " أنه رخص في رقية الحية والعقرب " .

ففي هذا الحديث الرخصة في رقية الحية والعقرب ، والرخصة لا تكون إلا بعد النهي ، فدل ذلك أن ما أبيح من ذلك نسخ ما كان في حديث عمران بن الحصين .


ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون ، وأراد بهم : الحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري والثوري والأئمة الأربعة وآخرين كثيرين ; فإنهم قالوا : لا بأس بالرقى .

قال أبو عمر : ذهب جماعة من العلماء إلى إباحة الاسترقاء والمعالجة والتداوي ، وقالوا : إن من سنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن نبيهم -عليه السلام -

[ ص: 188 ] الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم وعند نزول البلاء بهم في التعوذ بالله من كل شر وإلى الاسترقاء وقراءة القرآن والذكر والدعاء .

قوله : "احتجوا في ذلك " أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة - رضي الله عنها - .

أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي الحافظ ، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي ، عن المغيرة بن مقسم الضبي ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد النخعي ، عن عائشة .

وأخرجه ابن ماجه : عن عثمان بن أبي شيبة ، وهناد بن السري ، عن أبي الأحوص . . . . إلى آخره نحوه .

قوله : "في رقية الحية " الرقية -بضم الراء : العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات ، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها وفي بعضها النهي عنها ، فمن الجواز قوله : "استرقوا لها فإن بها النظرة " أي اطلبوا لها من يرقيها . ومن النهي قوله : "لا يسترقون ولا يكتوون " . والأحاديث في القسمين كثيرة ، ووجه الجمع بينهما أن الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة ، وأن يعتقد أن الرقيا نافعة لا محالة فيتكل عليها ، وإياها أراد بقوله : "ما توكل من استرقى " ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرقى المروية ; ولذلك قال للذي رقى بالقرآن وأخذ عليه أجرا : "من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق " ، وكقوله في حديث جابر أنه -عليه السلام - قال : "اعرضوها علي ، فعرضناها فقال : لا بأس بها ، إنما هي مواثيق " ، كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية ، وما كان بغير اللسان العربي مما لا يعرف له ترجمة ولا يمكن الوقوف عليه ولا يجوز استعماله .

[ ص: 189 ] وأما قوله -عليه السلام - : "لا رقية إلا من عين أو حمة " فمعناه لا رقية أولى وأنفع ، وهذا كما قيل : لا فتى إلا علي - رضي الله عنه - وقد أمر -عليه السلام - غير واحد من أصحابه بالرقية ، وسمع جماعة يرقون فلم ينكر عليهم .

وأما الحديث الآخر في صفة أهل الجنة الذين يدخلون بغير حساب ، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ، فهذا من صفات الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا ، الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها ، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم ، فأما العوام فمرخص لهم في التداوي والمعالجات ، ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله بالدعاء كان من جملة الخواص والأولياء ، ومن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء ; ألا ترى أن الصديق - رضي الله عنه - لما تصدق بجميع ماله لم ينكر عليه ; علما منه بيقينه وصبره ، ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب وقال : لا أملك غيره صرفه به ، بحيث لو أجابه عقره ، وقال فيه ما قال .

قوله : "ففي هذا الحديث " أي حديث عائشة : الرخصة من النبي -عليه السلام - في الرقية للحية والعقرب ، والرخصة لا تكون إلا بعد النهي عن شيء ، فدل ذلك أن ما كان في حديث عمران بن حصين من قوله : "ولا يسترقون " ليس على حاله ، والذي حققناه آنفا هو الفيصل بين هذه الأحاديث ; فافهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية