صفحة جزء
5889 ص: وهذا تأويل قد أنكره أهل العلم جميعا باللغة، وزعموا أنه لا وجه له عندهم، والذي حملنا على أن نأتي بهذا الحديث وإن كان منقطعا: احتجاج الذي يقول بالمسند علينا، ودعواه أنا خالفناه، وقد كان يلزمه على أصله لو أنصف خصمه أن لا يحتج بمثل هذا؛ إذ كان منقطعا، وهو لا تقوم الحجة عنده بالمنقطع.

[ ص: 160 ] فإن قال: قبلته وإن كان منقطعا; لأنه عن سعيد بن المسيب، ، ومنقطع سعيد بن المسيب يقوم مقام المتصل.

قيل له: ومن جعل لك أن تخص سعيدا بهذا وتمنع منه مثله من أهل المدينة، مثل أبي سلمة ، والقاسم ، وسالم ، وعروة ، وسليمان بن يسار وأمثالهم من أهل المدينة، ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وأمثالهما من أهل الكوفة، ، والحسن ، وابن سيرين ، وأمثالهما من أهل البصرة، ، وكذلك من كان في عصر من ذكرنا من سائر فقهاء الأمصار، ومن كان فوقهم من الطبقة الأولى من التابعين مثل علقمة ، والأسود ، وعمرو بن شرحبيل ، وعبيدة ، وشريح ، -رحمهم الله-.

لئن كان هذا لك مطلقا في سعيد بن المسيب، فإنه مطلق لغيرك فيمن ذكرنا، وإن كان غيرك ممنوعا من ذلك فإنك ممنوع من مثله؛ لأن هذا تحكم، وليس لأحد أن يحكم في دين الله بالتحكم.


ش: أي التأويل الذي تأوله الشافعي في قول سعيد بن المسيب: "له غنمه وعليه غرمه" تأويل قد أنكره عليه أهل العلم جميعا باللغة، فحكى عن أبي عمرو غلام ثعلب: أنه أخطأ من قال: الغرم الهلاك، بل الغرم اللزوم، ومنه الغريم; لأنه لزمه الدين، وقال تعالى: إن عذابها كان غراما أي لازما، والصحاح: الغرامة: ما يلزم أداؤه، وكذلك المغرم والغرم، وفي كتاب "الأفعال": غارمت غرما: لزمني ما لا يجب علي.

وقد فسر غير الشافعي الحديث بأشياء موافقة لما قاله أهل اللغة; فقال الهروي في "الغريبين": قال ابن عرفة: الغرامة عند العرب: ما كان لازما، والغرم: أداء شيء يلزم، ومنه الحديث: "له غنمه وعليه غرمه".

ففي زيادته: وغرمه: أداء ما يفك به الرهن.

[ ص: 161 ] وقال الجصاص: الغرم: الدين، فيكون تفسيرا لقوله: "لا يغلق الرهن، أي: لا يملك بالشرط عند محل الأصل، ولصاحبه إذا جاء زيادته وعليه دينه الذي هو مرهون به".

وفي "التمهيد": قال أبو عبيد: لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع: قد غلق، إنما يقال "غلق" إذا استحقه المرتهن فذهب به، وهذا كان من فعل الجاهلية فأبطله النبي -عليه السلام- بقوله: "لا يغلق الرهن" وقال مالك: تفسيره بما يرى: أن يرهن شيئا فيه فضل فيقول للمرتهن: إن جئتك تجعل إلي كذا; وإلا فالرهن لك بما فيه، فهذا لا يحل، وهو الذي نهي عنه، وبنحو هذا فسره الزهري والنخعي والثوري وطاوس وشريح .

وفي "القواعد" لابن رشد: أن أبا حنيفة وأصحابه تأولوا غنمه بما فضل منه، وغرمه بما نقص، ومعنى قوله: "وعليه غرمه" عند مالك ومن قال بقوله: أي نفقته.

وحكى صاحب "التمهيد" عن أبي حنيفة ، ومالك وأصحابهما في تأويل الحديث كما حكاه ابن رشد .

فالحاصل: أن الشافعي احتج بمرسل سعيد بن المسيب، وأوله بتأويل أنكره عليه أهل العلم جميعا باللغة.

وأقل الأحوال أنه يجعل غير ما ذكر مما تقدم من التأويلات، وترك القول بالتضمين مع أنه منصوص عليه في عدة أحاديث قد تأيد بعضها ببعض، وتأيدت بأقوال السلف والتابعين - على أن مذهب ابن المسيب بخلاف ما تأول الشافعي حديثه به، فقال صاحب "التمهيد": قال شريح والشعبي وغير واحد من الكوفيين: يذهب الرهن بما فيه; كانت قيمته مثل الدين أو أكثر منه أو أقل، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء، وهذا قول الفقهاء السبعة المدنيين إذا هلك وعميت قيمته ولم تقم بينة، فإن قامت بينة يردا الفضل، وهكذا قال الليث، وقال: .... بلغني عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - انتهى كلامه.

[ ص: 162 ] وابن المسيب من الفقهاء السبعة بلا خلاف، وروى عبد الرزاق في "مصنفه": عن معمر ، عن الحسن والزهري وقتادة وابن طاوس عن أبيه قالوا: من ارتهن حيوانا فهلك فهو بما فيه.

وقال أبو بكر الجصاص: اتفقت الصحابة على أنه مضمون، وإن اختلفوا في كيفية الضمان، فالقول بأنه أمانة خلاف الإجماع.

قوله: "والذي حملنا على أن نأتي بهذا الحديث" أي: حديث سعيد بن المسيب -وإن كان منقطعا- أشار بهذا الكلام إلى الإنكار على الشافعي; حيث احتجوا على الشافعية بالمسند إذا احتجوا بالمنقطع، ويدعي أنهم قد خالفوه بكونه قد احتج بالمسند وهم قد احتجوا بالمنقطع، ثم قال: لو أنصف الشافعي خصمه كان ينبغي على أصله الذي يذهب إليه أن لا يحتج بمثل هذا الحديث هاهنا; لأنه منقطع، وهو لا يرى الحجة بالمنقطع.

قوله: "فإن قال" أي: فإن قال الشافعي: إنما قبلته -أي: حديث سعيد بن المسيب- وإن كان منقطعا، وهذا جواب الشافعي عما قاله الحنفية، وقد كان يلزمه على أصله...." إلى آخره.

قيل له: "ومن جعلك...." إلى آخره: منع لما أجابه الشافعي، وحاصله: أن تخصيص الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب في العمل بها دون مراسيل غيره ممن هم أضرابه وأشكاله من أهل المدينة، مثل: أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وسالم بن عبد الله بن الخطاب ، وعروة بن الزبير بن العوام ، وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-.

ومثل: عامر بن شراحيل الشعبي ، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وأضرابهما من أهل الكوفة.

ومثل: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وأضرابهما من أهل البصرة.

[ ص: 163 ] وأمثال من كانوا في عصرهم وزمانهم، وأمثال من كان فوقهم من الطبقة الأولى من التابعين، مثل: علقمة بن قيس النخعي ، والأسود بن يزيد بن قيس النخعي ، وعمرو بن شرحبيل الهمداني ، وعبيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- ابن عمرو السلماني ، وشريح بن الحارث الكندي -رحمهم الله-.

تحكم وترجيح بلا مرجح، فلا يقبل منه، على أن الشافعي قد خالف مرسل سعيد بن المسيب في بعض المواضع.

فمن ذلك: ما روي عن سعيد بن المسيب بسند صحيح: "فرض رسول الله -عليه السلام- زكاة الفطر مدين من حنطة" وقد رده الشافعي وقال: هذا خطأ، وقد نص البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني أن إسناده صحيح، وذكر فيها أيضا أن الشافعي خالف مرسل سعيد بن المسيب في بعض المواضع، فكيف رده الشافعي وزعم أنه خطأ وهو صحيح ولاسيما وقد اعتضد بأحاديث وآثار أخرى على ما ذكرناها في موضعها.

فإن قيل: قد روي حديث سعيد بن المسيب هذا مسندا أيضا فلذلك قامت به الحجة عند الشافعي .

وهو ما رواه الدارقطني: ثنا محمد بن الحسين بن سعيد الهمذاني [الحياني] ثنا عبد الله بن هشام القواس، ثنا بشر بن يحيى المروزي، ثنا أبو عصمة ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

ثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن عمران العابدي، ثنا سفيان بن [ ص: 164 ] عيينة ، عن زياد بن سعد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

قال الدارقطني: زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن متصل.

ثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن عوف، نا عثمان بن سعيد بن كثير، ثنا إسماعيل بن عياش ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه وعليه غرمه".

ثنا أبو الطيب محمد بن جعفر بن دران ومحمد بن أحمد بن الصلت الأطروش، قالا: ثنا محمد بن خالد بن يزيد الراسبي، ثنا أبو ميسرة أحمد بن عبد الله بن ميسرة، ثنا سليمان بن داود الرقي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يغلق الرهن حتى يكون لك غنمه وعليك غرمه".

ثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن نصر بن بحير، ثنا عمران بن بكار، نا عبد الله بن عبد الجبار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا الزبيدي عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال: قال النبي -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

حدثنا أحمد بن عبد الله، ثنا عمران بن بكار، ثنا عبد الله بن عبد الجبار، ثنا إسماعيل، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

حدثنا محمد بن أحمد بن زيد الحنائي، ثنا موسى بن زكرياء، ثنا محمد بن يزيد الرواس، ثنا كريب أبو يحيى، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن [ ص: 165 ] المسيب ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، لك غنمه وعليك غرمه".

وأخرجه البيهقي: من طريق عبد الله بن عمران ، عن سفيان بن عيينة ، عن زياد بن سعد ، عن الزهري .... إلى آخره نحوه.

وأخرجه الحاكم: عن الأصم ، عن محمد بن عوف ، عن عثمان بن سعيد بن كثير ، عن إسماعيل بن عياش ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري .... إلى آخره.

وأخرجه البيهقي أيضا من طريق الحاكم .

وأخرجه ابن حزم في "المحلى": ثنا أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، ثنا جدي قاسم بن أصبغ، حدثني محمد بن إبراهيم، حدثني يحيى بن طالب الأنطاكي وجماعة من أهل الثقة، ثنا نضر بن عاصم الأنطاكي، نا شبابة بن ورقاء، نا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه".

فهذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب.

قلت: قال أبو عمر: أصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللوها.

والعجب من البيهقي كيف سكت هاهنا عن إسماعيل بن عياش وقال في باب السيف: لا نقضي في مثله، وفي باب أكل الضب: لا يحتج بمثله، وقال في باب ترك الوضوء من الدم: ما روى عن الشاميين صحيح وعن أهل الحجاز ليس بصحيح.

[ ص: 166 ] وابن أبي ذئب مدني وليس بشامي، على أن إسماعيل لم يسمعه من ابن أبي ذئب، وإنما سمعه من عباد بن كثير ، وعباد ضعيف عندهم.

ولئن سلمنا أنه حديث مسند صحيح فهو حجة عليه لا علينا؛ لأن قوله: "لا يغلق الرهن" معناه لا يهلك؛ إذ الغلق يستعمل في الهلاك، قال الكاساني: كذا قال بعض أهل اللغة، وعلى هذا كان الحديث حجة عليه؛ لأنه يذهب بالدين فلا يكون هالكا معنى، وقيل: معناه لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين، وهذا كان حكما جاهليا جاء الإسلام فأبطله.

وقوله: "عليه غرمه" أي نفقته وكفنه، ونحن نقول به. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية