صفحة جزء
14 ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري ، وعلي بن شيبة بن الصلت البغدادي ، قالا: ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال: سمعت ابن عون يحدث، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " نهى -أو نهي- أن يبول الرجل في الماء الدائم أو الراكد ثم يتوضأ منه أو يغتسل فيه" .


ش: رجاله كلهم ثقات، وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري التابعي الثقة الزاهد .

وأخرجه الطبراني بهذا الطريق من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ قال: سمعت ابن عون يحدث، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال: "نهى -أو نهي- أن يبول [ ص: 97 ] الرجل ... " إلى آخره، رواه عن بشر بن موسى ، عنه، وقال: لم يجوده عن ابن عون غير المقرئ .

وأخرجه الجماعة أيضا، فقال البخاري : أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، أنا أبو الزناد ، أن عبد الرحمن بن هرمز حدثه، أنه سمع أبا هريرة ، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "نحن الآخرون السابقون" .

وبإسناده قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" .

وقال مسلم : حدثني زهير بن حرب ، قال: نا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" .

وقال أبو داود : ثنا أحمد بن يونس ، قال: ثنا زائدة في حديث هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" .

وقال الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان ، ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" .

وقال النسائي : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال: أنا عيسى بن يونس ، قال: ثنا عوف ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" .

[ ص: 98 ] وقال ابن ماجه : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن عجلان ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد" .

قوله: "نهى" على صيغة المعلوم، وقوله: "أو نهي" على صيغة المجهول، وحرف "أو" يدل على تشكك الراوي، فالمعنى في الأول: نهى رسول الله - عليه السلام - ويكون محل "أن يبول الرجل" نصبا على المفعولية.

وفي الثاني: أتى النهي في بول الرجل في الماء الدائم ويكون محل "أن يبول" رفعا لاستناد "نهي" إليه، و"أن" في الوجهين مصدرية.

قوله: "الدائم" أي الثابت الواقف الذي لا يجري كما جاء في بعض الألفاظ: "في الماء الدائم الذي لا يجري" وهو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه.

قوله: "أو الراكد" شك من الراوي، من ركد إذا ثبت، قال الجوهري : ركد الماء ركودا سكن، وكل ثابت في مكان راكد.

ثم اعلم أن قوله: و"نهى" حكاية النهي كما أن قوله: "أمر" حكاية الأمر، واختلفوا فيما إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو السنة كذا ، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الإخبار بأمر رسول الله - عليه السلام - أو أنه سنة رسول الله عليه السلام.

وقال الشافعي في القديم: "ينصرف إلى ذلك عند الإطلاق" وفي الجديد قال: "لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان; لاحتمال أن يكون المراد سنة البلدان أو الرؤساء" حتى قال في كل موضع قال: السنة ببلدنا كذا، فإنما أراد سليمان بن بلال وكان عريفا بالمدينة .

[ ص: 99 ] واستنبط من الحديث المذكور أحكام:

الأول: احتج به أصحابنا أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به; قليلا كان أو كثيرا.

وعلى أن القلتين تحمل النجاسة ؛ لأن الحديث مطلق; فبإطلاقه يتناول الماء القليل والكثير والقلتين والأكثر، ولو قلنا: إن القلتين لا تحمل النجاسة لم يكن للنهي فائدة، على أن هذا أصح من حديث القلتين؛ لما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ومذهب مالك أن الماء القليل لا يتنجس إلا بتغير أحد أوصافه ؛ لقوله: - عليه السلام -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" ومذهب الشافعي وأحمد أن الماء إذا كان قلتين لا يتنجس إلا بالتغير؛ لحديث القلتين، والجواب أن حديث مالك ورد في بئر بضاعة وماؤها كان جاريا كما قد قررناه، وحديث الشافعي ضعيف من جهة كونه مضطربا سندا ومتنا على ما يجيء بيانه أو مؤول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فإن قلت: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يجوز تخصيصه ببئر بضاعة .

قلت: قد خص بدليل يساويه وهو حديث هذا الباب.

وقال ابن قدامة في "المغني": ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في المذهب أنه ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد ، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيد ، وروي عن أحمد أن الماء لا ينجس إلا بالتغيير قليله وكثيره، وروي مثل ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - قالوا: "الماء لا ينجس" وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر ، وهو قول للشافعي . ثم قال: [ ص: 100 ] ودليلنا حديث القلتين وحديث بئر بضاعة ، ثم قال: "وهذان الحديثان نص في خلاف ما ذهب إليه الحنفية " وقال أيضا: بئر بضاعة لا يبلغ إلى الحد الذي يمنع التنجس عندهم.

قلت: لا نسلم أن هذين الحديثين نص في خلاف مذهبنا، أما حديث القلتين فلأنه ضعيف -على ما يأتي- والعمل بالصحيح المتفق عليه أقوى وأقرب، وأما حديث بئر بضاعة فإنا نعمل به؛ لأن ماءها كان جاريا على ما ذكرنا، وقوله: "وبئر بضاعة لا يبلغ ... " إلى آخره غير صحيح; لأن البيهقي روى عن الشافعي أن بئر بضاعة كانت كثير الماء واسعة، وكان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونا ولا طعما.

فإن قيل: حديثكم عام في كل ماء وحديثهم خاص فيما بلغ القلتين، وتقديم الخاص على العام متعين، كيف وحديثكم لا بد من تخصيصه، فإنكم وافقتمونا على تخصيص الماء الكثير الذي يزيد على عشرة أذرع وإذا لم يكن بد من التخصيص فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي من غير أصل يرجع إليه ولا دليل يعتمد عليه.

قلت: لا نسلم أن تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مذهب أبي حنيفة ترجيح العام على الخاص في العمل به كما في بئر الناضح، فإنه رجح قوله - عليه السلام -: "من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا" على الخاص الوارد في بئر الناضح أنه ستون ذراعا .

[ ص: 101 ] ورجح قوله - عليه السلام -: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر" على الخاص الوارد بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ونسخ الخاص بالعام أيضا كما فعله في بول ما يؤكل لحمه فإنه جعل الخاص من حديث العرنيين فيه منسوخا بالعام وهو قوله - عليه السلام -: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" .

وقوله: "فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي" إنما يكون إذا كان الحديث المخصص غير مخالف للإجماع، وحديث القلتين خبر آحاد ورد مخالفا لإجماع الصحابة فيرد.

بيانه: أن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - أفتيا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله. ولم يظهر أثره في الماء وكان الماء أكثر من قلتين وذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم فكان إجماعا، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يرد، يدل عليه أن علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - وكفى به قدوة في هذا الباب، وقال أبو داود : لا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن [ ص: 102 ] النبي - عليه السلام - في تقدير الماء. وقال صاحب "البدائع": ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية دون الدلائل السمعية.

الثاني: استدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل فإنه قرن فيه بين الغسل فيه والبول فيه، أما البول فيه فينجسه فكذلك الغسل فيه، وفي دلالة القران بين الشيئين على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك وخالفهما غيرهما.

الثالث: أن النووي زعم أن النهي المذكور فيه للتحريم في بعض المياه، والكراهة في بعضها، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه؛ لمفهوم الحديث ولكن الأولى اجتنابه، وإن كان قليلا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا: يكره، والمختار أنه يحرم; لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي ، وإن كان كثيرا راكدا فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم، ولو قيل: يحرم لم يكن بعيدا. وأما الماء الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه حرام، والتغوط فيه كالبول فيه وأقبح، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء.

قلت: زعم النووي من باب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول.

الرابع: أن هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقا بالماء المستبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر كما قلناه، أو بحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي ، أو بالعمومات الدالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك .

الخامس: أن من تمسك بالعمومات الواردة الدالة على طهورية الماء الذي لم يتغير وصف من أوصافه الثلاثة يحمل النهي ها هنا على الكراهة فيما لم يتغير، وهو خلاف المشهور في النهي، ومن قال بتنجيس ما دون القلتين من الماء وإن لم يتغير -من [ ص: 103 ] أصحاب الشافعي وغيره- فإنما أخذه من مفهوم حديث القلتين، وفي تخصيص العموم بالمفهوم تنازع بين أهل الأصول، فبعضهم يقول: لا نعلم خلافا بين القائلين بالمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم به، وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أم من قبيل مفهوم المخالفة، وغيره يقول: إذا قلنا: المفهوم حجة فالأشبه أنه يجوز تخصيص العام به; لأن المفهوم أضعف دلالة من المنطوق فكان التخصيص تقديما للأضعف على الأقوى وذلك غير جائز.

السادس: أن المذكور فيه البول فيلحق به التغوط قياسا، والمذكور فيه الغسل من الجنابة فيلحق به اغتسال الحائض والنفساء قياسا، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبهما.

فإن قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ فلا إلحاق عنده كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس ممن زعم أن العلة الاستعمال فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الذي بين أبي يوسف ومحمد في كون الماء مستعملا.

السابع: فيه دلالة على تنجيس البول.

التالي السابق


الخدمات العلمية