صفحة جزء
4196 - حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن ابن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها ، مثله . غير أنه لم يذكر الزيادة التي فيه على ما قبله .

فقد تواترت هذه الآثار عن عائشة بما ذكرنا ، بما لم يتواتر عن غيرها ، بما يخالف ذلك .

فإن كان هذا يؤخذ من طريق صحة الأسانيد ، فإن إسناد حديث عائشة رضي الله عنها هذا إسناد صحيح ، لا تنازع بين أهل العلم فيه .

وليس حديث جابر بن عبد الله كذلك ؛ لأن من رواه دون من روى حديث عائشة رضي الله عنها .

وإن كان ذلك يؤخذ من طريق ظهور الشيء وتواتر الرواية به ، فإن حديث عائشة أيضا أولى ؛ لأن ذلك موجود فيه ، ومعدوم في حديث جابر .

وإن كان ذلك يؤخذ من طريق النظر ، فإنا قد رأينا الذين يذهبون إلى حديث جابر رضي الله عنه يقولون : ( إن الحرمة التي تجب على باعث الهدي بتقليده إياه وإشعاره ، فيحل عنه إذا حل الناس بغير فعل يفعله هو ، فيحل به ) .

[ ص: 267 ] فأردنا أن ننظر في الإحرام المتفق عليه ، هل هو كذلك أم لا ؟

فرأينا الرجل إذا أحرم بحج أو عمرة ، فقد صار محرما إحراما متفقا عليه ، ورأيناه غير خارج من ذلك الإحرام إلا بأفعال يفعلها ، فيحل بها منه ، ولا يحل بغيرها .

ألا ترى أنه إذا كان حاجا ، فلم يقف بعرفة ، حتى مضى وقتها ، أن الحج قد فاته ، ولا يحل إلا بفعل يفعله من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق أو التقصير .

ولو وقف بعرفة ، وفعل جميع ما يفعله الحاج ، غير الطواف الواجب ، لم يحل له النساء أبدا حتى يطوف الطواف الواجب .

وكذلك العمرة لا يحل منها أبدا إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق الذي يكون منه بعد ذلك .

فكانت هذه أحكام الإحرام المتفق عليه ، لا يخرجه منه مرور مدة ، وإنما يخرجه منه الأفعال .

وكان من أحرم بعمرة ، وساق الهدي وهو يريد التمتع ، فطاف لعمرته وسعى ، لم يحل حتى يفرغ من حجه وينحر الهدي .

فكانت هذه حرمة زائدة بسبب الهدي ؛ لأنه لولا الهدي ، لكان إذا طاف لعمرته وسعى ، حلق وحل له ، فإنما منعه من ذلك الهدي الذي ساقه ، ثم كان إحلاله من تلك الحرمة أيضا إنما يكون بفعل يفعله ، لا بمرور وقت .

فكان هذا الإحرام المتفق عليه لا يخرج منه بمرور الأوقات ولا بأفعال غيره ، ولكن بأفعال يفعلها هو .

وكأن من بعث بهدي ، وأقام في أهله ، وأمر أن يقلد ويشعر ، فوجب عليه بذلك التجريد ، في قول من يوجب ذلك ، يحل من تلك الحرمة ، لا بفعل يفعله ، ولكن في وقت ما يحل الناس .

فخالف ذلك الإحرام المتفق عليه ، فلم يجب ثبوته كذلك ؛ لأنه إنما يثبت الأشياء المختلف فيها إذا أشبهت الأشياء المجتمع عليها .

فإذا كانت غير مشبهة لها ، لم يثبت إلا أن يكون معها التوقيت الذي يقوم به الحجة ، فيجب القول بها لذلك .

فإذا وجب ذلك انتفى الاختلاف ، فثبت بما ذكرنا صحة قول من ذهب إلى حديث عائشة رضي الله عنها ، وفساد قول من خالف ذلك إلى حديث جابر بن عبد الله .

وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية