صفحة جزء
4220 - حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، قال : كنت عند عطاء ، فجاءه رجل ، فقال : هل يتزوج المحرم ؟

فقال عطاء : ما حرم الله عز وجل النكاح منذ أحله .

[ ص: 271 ] قال ميمون : فقلت له : إن عمر بن عبد العزيز كتب إلي : أن سل يزيد بن الأصم ، أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج ميمونة ، حلالا ، أو حراما ؟

فقال يزيد : تزوجها وهو حلال .

فقال عطاء : ما كنا نأخذ هذا إلا عن ميمونة ، كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم
.

فأخبر جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران ، بالسبب الذي له وقع إليه هذا الحديث ، عن يزيد بن الأصم ، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد ، لا عن ميمونة ، ولا عن غيرها ، ثم حاج ميمون به عطاء ، فذكره عن يزيد ، ولم يجوزه به .

فلو كان عنده عمن هو أبعد منه لاحتج به عليه ؛ ليؤكد بذلك حجته .

فهذا هو أصل هذا الحديث أيضا عن يزيد بن الأصم ، لا عن غيره . والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم ، أهل علم .

وأثبت أصحاب ابن عباس رضي الله عنه ؛ سعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وجابر بن زيد .

وهؤلاء كلهم أئمة فقهاء يحتج برواياتهم وآرائهم الذين نقلوا عنهم .

فكذلك أيضا منهم ، عمرو بن دينار ، وأيوب السختياني ، وعبد الله بن أبي نجيح .

فهؤلاء أيضا أئمة يقتدى بروايتهم .

ثم قد روي عن عائشة أيضا ما قد وافق ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وروى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه : أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق .

فكل هؤلاء أئمة يحتج بروايتهم .

فما رووا من ذلك أولى مما روى من ليس كمثلهم في الضبط ، والثبت ، والفقه ، والأمانة .

وأما حديث عثمان رضي الله عنه ، فإنما رواه نبيه بن وهب ، وليس كعمرو بن دينار ، ولا كجابر بن زيد ، ولا كمن روى ما يوافق ذلك ، عن مسروق ، عن عائشة ، وليس لنبيه أيضا موضع في العلم ، كموضع أحد ممن ذكرنا .

فلا يجوز - إذ كان كذلك - أن يعارض به جميع من ذكرنا ، ممن روى بخلاف الذي روى هو .

[ ص: 272 ] فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار .

فأما النظر في ذلك ، فإن المحرم ، حرام عليه جماع النساء ، فاحتمل أن يكون عقد نكاحهن كذلك .

فنظرنا في ذلك ، فوجدناهم قد أجمعوا أنه لا بأس على المحرم بأن يبتاع جارية ، ولكن لا يطؤها حتى يحل .

ولا بأس بأن يشتري طيبا ليتطيب به بعدما يحل ، ولا بأس بأن يشتري قميصا ليلبسه بعدما يحل .

وذلك الجماع والتطيب واللباس ، حرام عليه كله ، وهو محرم .

فلم يكن حرمة ذلك عليه تمنعه عقد الملك عليه .

ورأينا المحرم لا يشتري صيدا ، فاحتمل أن يكون حكم عقد النكاح ، كحكم عقد شراء الصيد ، أو حكم عقد شراء ما وصفنا مما سوى ذلك .

فنظرنا في ذلك ، فإذا من أحرم وفي يده صيد ، أمر أن يطلقه ، ومن أحرم وعليه قميص ، وفي يده طيب أمر أن يطرحه عنه ويرفعه .

ولم يكن ذلك كالصيد الذي يؤمر بتخليته ، ويترك حبسه .

ورأيناه إذا أحرم ومعه امرأة ، لم يؤمر بإطلاقها ، بل يؤمر بحفظها وصونها ، فكانت المرأة في ذلك ، كاللباس والطيب ، لا كالصيد .

فالنظر على ذلك ، أن يكون في استقبال عقد النكاح عليها ، في حكم استقبال عقد الملك على الثياب والطيب ، الذي يحل له به لبس ذلك ، واستعماله بعد الخروج من الإحرام .

فقال قائل : فقد رأينا من تزوج أخته من الرضاعة كان نكاحه باطلا ، ولو اشتراها كان شراؤه جائزا ، فكان الشراء يجوز أن يعقد على ما لا يحل وطؤه ، والنكاح لا يجوز أن يعقد إلا على من يحل وطؤها ، وكانت المرأة حراما على المحرم جماعها .

فالنظر على ذلك أن يحرم عليه نكاحها .

فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك ، أنا رأينا الصائم والمعتكف حرام على كل واحد منهما الجماع .

وكل قد أجمع أن حرمة الجماع عليهما ، لا يمنعهما من عقد النكاح لأنفسهما ؛ إذ كان ما حرم الجماع عليهما من ذلك ، إنما هو حرمة دين كحرمة حيض المرأة الذي لا يمنعها من عقد النكاح على نفسها .

فحرمة الإحرام في النظر أيضا كذلك .

وقد رأينا الرضاع الذي لا يجوز تزويج المرأة لمكانه إذا طرأ على النكاح فسخ النكاح ، وكذلك لا يجوز استقبال النكاح عليه .

وكان الإحرام إذا طرأ على النكاح ، لم يفسخه .

فالنظر على ذلك أيضا أن يكون لا يمنع استقبال عقدة النكاح ، وحرمة الجماع بالإحرام كحرمته بالصيام سواء .

[ ص: 273 ] فإذا كانت حرمة الصيام لا تمنع عقد النكاح ، فكذلك حرمة الإحرام ، لا تمنع عقدة النكاح أيضا .

فهذا هو النظر في هذا الباب ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية