صفحة جزء
5216 - وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن بحر بن مطر ، وعلي بن شيبة البغداديان ، قالا : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى ، أعطى بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط بني أمية شيئا ، وبني نوفل .

فأتيت أنا وعثمان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء بنو هاشم ، فضلهم الله بك ، فما بالنا وبني المطلب ؟ وإنما نحن وهم في النسب شيء واحد .

[ ص: 236 ] فقال : إن بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية ولا في الإسلام .


قالوا : فلما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك السهم بعض القرابة ، وحرم من قرابته منه كقرابتهم ، ثبت بذلك أن الله لم يرد بما جعل لذوي القربى ، كل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أراد به خاصا منهم ، وجعل الرأي في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يضعه فيمن شاء منهم ، وإذا مات فانقطع رأيه ، انقطع ما جعل لهم من ذلك ، كما قد جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصطفي من المغنم لنفسه سهم الصفي ، فكان ذلك ما كان حيا ، يختار لنفسه من المغنم ما شاء ، فلما مات انقطع ذلك .

وممن ذهب إلى هذا القول أبو حنيفة وأبو يوسف ، ومحمد ، رحمة الله عليهم .

وخالفهم في ذلك آخرون ، فقالوا : بل ذوو القربى الذين جعل الله لهم من ذلك ما جعل ، هم : بنو هاشم ، وبنو المطلب .

فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاهم من ذلك بجعل الله - عز وجل - ذلك لهم ، ولم يكن له حينئذ أن يعطي غيرهم من بني أمية ، وبني نوفل ؛ لأنهم لم يدخلوا في الآية ، وإنما دخل فيها من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنو هاشم ، وبنو المطلب خاصة .

فلما اختلفوا في هذا هذا الاختلاف ، فذهب كل فريق إلى ما ذكرنا ، واحتج لقوله بما وصفنا وجب أن نكشف كل قول منها ، وما ذكرنا من حجة قائله لنستخرج من هذه الأقاويل قولا صحيحا .

فنظرنا في ذلك ، فابتدأنا بقول الذي نفى أن يكون لهم في الآية شيء بحق القرابة ، وأنه إنما جعل لهم فيها ما جعل لحاجتهم وفقرهم ، كما جعل للمسكين واليتيم فيها ما جعل ، لحاجتهما وفقرهما ، فإذا ارتفع الفقر عنهم جميعا ارتفعت حقوقهم من ذلك .

فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد قسم سهم ذوي القربى حين قسمه ، فأعطى بني هاشم ، وبني المطلب ، وعمهم بذلك جميعا ، وقد كان فيهم الغني والفقير .

فثبت بذلك أنه لو كان ما جعل لهم في ذلك ، هو لعلة الفقر ، لا لعلة القرابة ، إذا لما دخل أغنياؤهم في فقرائهم فيما جعل لهم من ذلك ، ولقصد إلى الفقراء منهم دون الأغنياء ، فأعطاهم كما فعل في اليتامى .

فلما أدخل أغنياءهم في فقرائهم ثبت بذلك أنه قصد بذلك إلى أعيان القرابة لعلة قرابتهم ، لا لعلة فقرهم .

وأما ما ذكروا من حديث فاطمة رضي الله عنها ، حيث سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخدمها خادما من السبي الذي كان قدم عليه ، فلم يفعل ، ووكلها إلى ذكر الله عز وجل ، والتسبيح ، فهذا ليس فيه - عندنا - دليل لهم على ما ذكروا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لها حين سألته : ( لا حق لك فيه ) .

ولو كان ذلك كذلك ، لبين ذلك لها كما بينه للفضل بن العباس ، وربيعة بن الحارث ، حين سألا أن [ ص: 237 ] يستعملهما على الصدقة ليصيبا منها ، فقال لهما : إنما هي أوساخ الناس ، وأنها لا تحل لمحمد ، ولا لأحد من أهل بيته .

وقد يجوز أيضا أن يكون لم يعطها الخادم حينئذ ؛ لأنه لم يكن قسم ، فلما قسم أعطاها حقها من ذلك ، وأعطى غيرها أيضا حقه .

فيكون تركه إعطاءها إنما كان ؛ لأنه لم يقسم ، ودلها على تسبيح الله ، وتحميده ، وتهليله الذي يرجو لها به الفوز من الله تعالى ، والزلفى عنده .

وقد يجوز أن يكون قد أخدمها من ذلك ، بعد ما قسم ، ولا نعلم في الآثار ما يدفع شيئا من ذلك .

وقد يجوز أن يكون منعها من ذلك ، إن كان منعها منه ؛ لأنها ليست قرابة ، ولكن أقرب من القرابة ؛ لأن الولد لا يقال : هو من قرابة أبيه ، إنما يقال ذلك لمن غيره أقرب إليه منه .

ألا ترى إلى قول الله عز وجل : قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ، فجعل الوالدين غير الأقربين ؛ لأنهم أقرب من الأقربين .

فكما كان الوالد يخرج من قرابة ولده ، فكذلك الولد يخرج من قرابة والده .

وقد قال محمد بن الحسن رحمة الله عليه ، نحوا مما ذكرنا في رجل قال : ( قد أوصيت بثلث مالي ، لقرابة فلان ) : أن والديه وولده لا يدخلون في ذلك ؛ لأنهم أقرب من القرابة ، وليسوا بقرابة ، واحتج في ذلك بهذه الآية التي ذكرناها ، فهذا وجه آخر .

فارتفع بما ذكرنا أن يكون لهم أيضا بحديث فاطمة رضي الله عنها هذا ، حجة في نفي سهم ذوي القربى .

وأما ما احتجوا به في حديث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من فعلهما ، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكروا ذلك عليهما ، فإن هذا مما يسع فيه اجتهاد الرأي ، فرأياهما ذلك ، واجتهدا ، فكان ما أداهما إليه اجتهادهما ، هو ما رأيا في ذلك فحكما به ، وهو الذي كان عليهما ، وهما في ذلك مثابان مأجوران . وأما قولهم : ولم ينكر ذلك عليهما أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف يجوز أن ينكر ذلك عليهما أحد ، وهما إمامان عدلان ، رأيا رأيا فحكما به ، ففعلا في ذلك الذي كلفا ؟

ولكن قد رأى في ذلك غيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما رأيا ، فلم ينكروا ذلك عليهما فيما حكما به من ذلك ، إذ كان الرأي في ذلك واسعا ، والاجتهاد للناس جميعا .

فأدى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما رأيهما في ذلك إلى ما رأيا وحكما ، وأدى غيرهما ممن خالفهما اجتهاده في ذلك إلى ما رآه ، وكل مأجور في اجتهاده في ذلك ، مثاب مؤد للفرض الذي عليه ، ولم ينكر بعضهم على بعض قوله ؛ لأن ما خالف إليه هو رأي ، والذي قاله مخالفه هو رأي أيضا ، ولا توقيف مع واحد منهما لقوله ، من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع .

[ ص: 238 ] والدليل على أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد كانا خولفا فيما رأيا من ذلك ، قول ابن عباس رضي الله عنهما : ( قد كنا نرى أنا نحن هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى ذلك علينا قومنا ) .

فأخبر أنهم رأوا في ذلك رأيا ، أباه عليهم قومهم ، وأن عمر دعاهم إلى أن يزوج منه أيمهم ويكسو منه عاريهم ، قال : ( فأبينا عليه إلا أن يسلمه لنا كله ) .

فدل ذلك أنهم قد كانوا على هذا القول في خلافة عمر بعد أبي بكر ، وأنهم لم يكونوا نزعوا عما كانوا رأوا من ذلك ، لرأي أبي بكر ولا رأي عمر رضي الله تعالى عنهما .

فدل ما ذكرنا أن حكم ذلك كان عند أبي بكر وعمر ، وعند سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كحكم الأشياء التي تختلف فيها التي يسع فيها اجتهاد الرأي .

وأما قولهم : ( ثم أفضي الأمر إلى علي رضي الله عنه ، فلم يغير شيئا من ذلك ، عما كان وضعه عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ) .

قالوا : ( فذلك دليل على أنه قد كان رأى في ذلك أيضا مثل الذي رأيا ) .

فليس ذلك كما ذكروا ؛ لأنه لم يكن بقي في يد علي مما كان وقع في يد أبي بكر وعمر من ذلك شيء ؛ لأنهما لما كان ذلك ، في أيديهما ، أنفذاه في وجوهه التي رأياها في ذلك الذي كان عليهما ، ثم أفضي الأمر إلى علي رضي الله تعالى عنه ، فلم يعلم أنه سبى أحدا ولا ظهر على أحد من العدو ، ولا غنم غنيمة يجب فيها خمس لله ؛ لأنه إنما كان شغله في خلافته كلها بقتال من خالفه ، ممن لا يسبى ولا يغنم .

وإنما يحتج بقول علي رضي الله عنه في ذلك لو سبى وغنم ، ففعل في ذلك مثل ما كان أبو بكر وعمر فعلا في الأخماس .

وأما إذا لم يكن سبى ولا غنم ، فلا حجة لأحد في تركه تغيير ما كان فعل قبله من ذلك .

ولو كان بقي في يده من ذلك شيء ، مما كان غنمه من قبله ، فحرمه ذوي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما كان في ذلك أيضا حجة تدل على مذهبه في ذلك كيف كان ؟ لأن ذلك إنما صار إليه بعد ما نفذ فيه الحكم من الإمام الذي كان قبله فلم يكن له إبطال ذلك الحكم ، وإن كان هو يرى خلافه ؛ لأن ذلك الحكم مما يختلف فيه العلماء ، ولو كان علي رضي الله عنه رأى في ذلك ما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رأياه في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد خالفه ، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( كنا نرى أنا نحن هم ، فأبى ذلك علينا قومنا ) .

فهذه جوابات الحجج التي احتج بها الذين نفوا سهم ذوي القربى أن يكون واجبا لهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في حياته ، وأنهم كانوا في ذلك كسائر الفقراء .

فبطل هذا المذهب ، فثبت أحد المذاهب الأخر ، فأردنا أن ننظر في قول من جعله لقرابة الخليفة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده هل لذلك وجه ؟

[ ص: 239 ] فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فضل بسهم الصفي وبخمس الخمس ، وجعل له مع ذلك في الغنيمة سهم كسهم رجل من المسلمين .

ثم رأيناهم قد أجمعوا أن سهم الصفي ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن حكم رسول الله في ذلك خلاف حكم الإمام من بعده .

فثبت بذلك أيضا أن حكمه في خمس الخمس خلاف حكم الإمام من بعده ، وإذا ثبت أن حكمه فيما وصفناه خلاف حكم الإمام من بعده ، ثبت أن حكم قرابته في ذلك خلاف حكم قرابة الإمام من بعده ، قلب أحد القولين من الآخرين ، فنظرنا في ذلك فإذا الله عز وجل قال : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريا له ، ما كان حيا إلى أن مات ، وانقطع بموته ، وكان سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان قبل ذلك .

ثم اختلفوا فيهم في ذوي القربى ، فقال قوم : هو لهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان لهم في حياته .

وقال قوم : قد انقطع عنهم بموته ، وكان الله عز وجل قد جمع كل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ولذي القربى ، فلم يخص أحدا منهم دون أحد . ثم قسم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعطى منهم بني هاشم وبني المطلب خاصة ، وحرم بني أمية ، وبني نوفل ، وقد كانوا محصورين معدودين ، وفيمن أعطى الغني والفقير ، وفيمن حرم كذلك .

فثبت أن ذلك السهم كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجعله في أي قرابته شاء ، فصار بذلك حكمه حكم سهمه الذي كان يصطفي لنفسه ، فكما كان ذلك مرتفعا بوفاته ، غير واجب لأحد من بعده ، كان هذا أيضا كذلك مرتفعا بوفاته ، غير واجب لأحد من بعده .

وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمة الله عليهم أجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية