صفحة جزء
5881 - حدثنا روح ومحمد بن خزيمة ، قالا : قال لنا أحمد بن صالح : هذا حديث صحيح وبه أقول .

قال روح : قال لي أحمد بن صالح وقد حدثنيه الدمشقي - يعني : عبد الله بن يوسف - عن ابن لهيعة . فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما ، أن الأحباس منهي عنها غير جائزة ، وأنها قد كانت قبل نزول الفرائض ، بخلاف ما صارت عليه بعد نزول الفرائض ، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار .

وأما وجهه من طريق النظر فإن أبا حنيفة وأبا يوسف وزفر ومحمدا رحمة الله عليهم ، وجميع المخالفين لهم والموافقين ، قد اتفقوا على أن الرجل إذا وقف داره في مرضه على الفقراء والمساكين ، ثم توفي في مرضه ذلك جائز من ثلثه ، وأنها غير موروثة عنه .

فاعتبرنا ذلك ، هل يدل على أحد القولين ؟ فكان الرجل إذا جعل شيئا من ماله من دنانير أو دراهم صدقة فلم ينفذ ذلك حتى مات أنه ميراث ، وسواء جعل ذلك في مرضه أو في صحته ، إلا أن يجعل ذلك وصية بعد موته فينفذ ذلك بعد موته من ثلث ماله كما ينفذ الوصايا .

فأما إذا جعله في مرضه ولم ينفذه للمساكين بدفعه إياه إليهم فهو كما جعله في صحته ، وكان جميع ماله يفعله في صحته فينفذ من جميع ماله ، ولا يكون له عليه بعد ذلك ملك ، مثل : العتاق والهبات والصدقات هو الذي ينفذ إذا فعله في مرضه من ثلث ماله ، وكان الواقف إذا وقف في مرضه داره أو أرضه ، وجعل آخرها في سبيل الله كان ذلك جائزا باتفاقهم من ثلث ماله بعد وفاته ، لا سبيل لوارثه عليه . وليس ذلك بداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا حبس على فرائض الله .

فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك سبيله ، إذا وقف في الصحة ، فيكون نافذا من جميع المال ، ولا يكون له عليه سبيل بعد ذلك قياسا ونظرا على ما ذكرنا .

فإلى هذا أذهب ، وبه أقول من طريق النظر ، لا من طريق الآثار ؛ لأن الآثار في ذلك قد تقدم وصفي لها وبيان معانيها وكشف وجوهها .

فإن قال قائل : أفتخرج الأرض بالوقوف من ملك ربها بوقفه إياها لا إلى ملك مالك ؟ قيل له : وما تنكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدا للمسلمين ويخلي بينهم وبينها ، أنها قد خرجت بذلك من ملكه لا إلى ملك مالك ولكن إلى الله عز وجل .

[ ص: 98 ] فالذي يلزم مخالفك فيما احتججت عليه بما وصفنا يلزمك في هذا مثله .

فإن قال قائل : فما معنى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبس الذي رويته عنه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ؟ قيل له : قد قال الناس في ذلك قولين : أحدهما : القول الذي ذكرناه عند روايتنا إياه .

والآخر أن ذلك أريد به ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .

فكانوا يحبسون ما يجعلونه كذلك كذلك ، فلا يورثونه أحدا ، فلما أنزلت سورة الفرائض وبين الله عز وجل فيها المواريث وقسم الأموال عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حبس .

ثم تكلم الذين أجازوا الصدقات الموقوفات فيها بعد تثبيتهم إياها على ما ذكرنا فقال بعضهم : هي جائزة قبضت من المصدق بها أو لم تقبض .

وممن قال بذلك أبو يوسف رحمة الله عليه .

وقال بعضهم : لا ينفذها حتى يخرجها من يده ، ويقبضها منه غيره ، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن الحسن رحمة الله عليهم .

فاحتجنا أن ننظر في ذلك لنستخرج من القولين قولا صحيحا فرأينا أشياء يفعلها العباد على ضروب .

فمنها العتاق ينفذ بالقول ؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه إلى الله عز وجل .

ومنها الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذي ملكها له .

فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيها هي أشبه فنعطفه عليه .

فرأينا الرجل إذا وقف أرضه أو داره فإنما يملك الذي أوقفها عليه منافعها ، ولم يملك من رقبتها شيئا ، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله عز وجل ، فثبت أن ذلك نظير ما أخرجه من ملكه إلى الله عز وجل .

فكما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول كان كذلك الوقوف لا يحتاج فيها إلى قبض مع القول .

وحجة أخرى : أن القبض لو أوجبناه فإنما كان القابض يقبض ما لم يملك بالوقف ، فقبضه إياه وغير قبضه إياه سواء .

فثبت بما ذكرنا ما ذهب إليه أبو يوسف رحمة الله عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية