صفحة جزء
646 - حدثنا حسين بن نصر وعلي بن شيبة ، قالا : ثنا أبو نعيم ، قالا : ثنا سفيان ، عن فراس وبيان ، عن الشعبي ... فذكر بإسناده مثله .

فلما روي عن عائشة رضي الله عنها ما ذكرنا من قولها الذي أفتت به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما ذكرنا من حكم المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة ، وما ذكرنا أنها تجمع بين الصلاتين بغسل ، وما ذكرنا أنها تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة ، وقد روي ذلك كله عنها - ثبت بجوابها ذلك أن ذلك الحكم هو الناسخ للحكمين الآخرين ؛ لأنه لا يجوز - عندنا - عليها أن تدع الناسخ ، وتفتي بالمنسوخ ، ولولا ذلك ، لسقطت روايتها .

فلما ثبت أن هذا هو الناسخ لما ذكرنا ، وجب القول به ، ولم يجز خلافها . هذا وجه قد يجوز أن يكون معاني هذه الآثار عليه .

وقد يجوز في هذا وجه آخر ، يجوز أن يكون ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاطمة ابنة أبي حبيش لا يخالف ما روي عنه في أمر سهلة ابنة سهيل ؛ لأن فاطمة ابنة أبي حبيش كانت أيامها معروفة ، وسهلة كانت أيامها مجهولة إلا أن دمها ينقطع في أوقات ، ويعود في أوقات ، وهي قد أحاط علمها أنها لم تخرج من الحيض بعد غسلها إلى أن صلت الصلاتين جميعا .

فإن كان ذلك كذلك ، فإنا نقول بالحديثين جميعا ، فنجعل حكم حديث فاطمة على ما صرفناه إليه ، ونجعل حكم حديث سهلة على ما صرفناه أيضا إليه .

وأما حديث أم حبيبة رضي الله عنها ، فقد روي مختلفا . فبعضهم يذكر عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل عند كل صلاة ، ولم يذكر أيام أقرائها .

[ ص: 106 ] فقد يجوز أن يكون أمرها بذلك ؛ ليكون ذلك الماء علاجا لها ؛ لأنها تقلص الدم في الرحم فلا يسيل . وبعضهم يرويه عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ، ثم تغتسل لكل صلاة .

فإن كان ذلك كذلك ، فقد يجوز أن يكون أراد به العلاج .

وقد يجوز أن يكون أراد به ما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا ؛ لأن دمها سائل دائم السيلان ، فليست صلاة إلا يحتمل أن تكون عندها طاهرا من حيض ليس لها أن تصليها إلا بعد الاغتسال ، فأمرها بالغسل لذلك .

فإن كان هذا هو معنى حديثها ، فإنا كذلك - نقول أيضا فيمن استمر بها الدم ، ولم تعرف أيامها . فلما احتملت هذه الآثار ما ذكرنا وروينا عن عائشة رضي الله عنها من قولها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وصفنا ثبت أن ذلك هو حكم المستحاضة ، التي لا تعرف أيامها ، وثبت أن ما خالف ذلك مما روي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستحاضة استحاضتها غير استحاضة هذه ، أو في مستحاضة استحاضتها مثل استحاضة هذه .

إلا أن ذلك - على أي المعاني كان - فما روي في أمر فاطمة ابنة أبي حبيش أولى ؛ لأن معه الاختيار من عائشة له بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما خالفه ، وما وافقه من قوله .

وكذلك أيضا ما رويناه عن علي رضي الله عنه في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة ، وما رويناه عنه أنها تجمع بين الصلاتين بغسل ، وما رويناه عنه أنها تدع الصلاة أيام أقرائها ، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة إنما اختلفت أقواله في ذلك لاختلاف الاستحاضة التي أفتى فيها بذلك .

وأما ما رووا عن أم حبيبة رضي الله عنها في اغتسالها لكل صلاة ، فوجه ذلك عندنا أنها كانت تتعالج به . فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار ، وهي التي يحتج بها فيه . ثم اختلف الذين قالوا : إنها تتوضأ لكل صلاة . فقال بعضهم : تتوضأ لوقت كل صلاة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وزفر ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى .

وقال آخرون : بل تتوضأ لكل صلاة ، ولا يعرفون ذكر الوقت في ذلك . فأردنا نحن أن نستخرج من القولين قولا صحيحا .

فرأيناهم قد أجمعوا أنها إذا توضأت في وقت صلاة ، فلم تصل حتى خرج الوقت ، فأرادت أن تصلي بذلك الوضوء - أنه ليس ذلك لها حتى تتوضأ وضوءا جديدا .

ورأيناها لو توضأت في وقت صلاة فصلت ، ثم أرادت أن تتطوع بذلك الوضوء كان ذلك لها ما دامت في الوقت .

[ ص: 107 ] فدل ما ذكرنا أن الذي ينقض تطهرها هو خروج الوقت ، وأن وضوءها يوجبه الوقت لا الصلاة ، وقد رأيناها لو فاتتها صلوات ، فأرادت أن تقضيهن كان لها أن تجمعهن في وقت صلاة واحدة بوضوء واحد .

فلو كان الوضوء يجب عليها لكل صلاة لكان يجب أن تتوضأ لكل صلاة من الصلوات الفائتات . فلما كانت تصليهن جميعا بوضوء واحد ، ثبت بذلك أن الوضوء الذي يجب عليها ، هو لغير الصلاة ، وهو الوقت . وحجة أخرى ، أنا قد رأينا الطهارات تنتقض بأحداث ، منها الغائط والبول . وطهارات تنتفض بخروج أوقات ، وهي الطهارة بالمسح على الخفين ، ينقضها خروج وقت المسافر وخروج وقت المقيم .

وهذه الطهارات المتفق عليها ، لم نجد فيما ينقضها صلاة ، إنما ينقضها حدث أو خروج وقت . وقد ثبت أن طهارة المستحاضة طهارة ينقضها الحدث وغير الحدث . فقال قوم : هذا الذي هو غير الحدث ، هو خروج الوقت .

وقال آخرون : هو فراغ من صلاة ، ولم نجد الفراغ من الصلاة حدثا في شيء غير ذلك ، وقد وجدنا خروج الوقت حدثا في غيره .

فأولى الأشياء أن نرجع في هذا الحدث المختلف فيه ، فنجعله كالحدث الذي قد أجمع عليه ووجد له أصل ولا نجعله كما لم يجمع عليه ، ولم نجد له أصلا .

فثبت بذلك قول من ذهب إلى أنها تتوضأ لكل وقت صلاة ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، رحمهم الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية