صفحة جزء
[ ص: 181 ] باب فوت الحج بلا حصر عدو ولا مرض ولا غلبة على العقل

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى من فاته الحج لا بحصر العدو ولا محبوسا بمرض ولا ذهاب عقل بأي وجه ما فاته من خطأ عدد أو إبطاء في مسيره أو شغل أو توان فسواء ذلك كله ، والمريض والذاهب العقل يفوته الحج يجب على كل الفدية والقضاء والطواف والسعي والحلاق أو التقصير وما وجب على بعضهم وجب على كل ، غير أن المتواني حتى يفوته الحج آثم إلا أن يعفو الله عنه فإن قال قائل فهل من أثر فيما قلت ؟ قلت نعم ، في بعضه وغيره في معناه .

( قال الشافعي ) أخبرنا أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال : من أدرك ليلة النحر من الحاج فوقف بحيال عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج ومن لم يدرك عرفة فيقف بها قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج فليأت البيت فليطف به سبعا وليطف بين الصفا والمروة سبعا ثم ليحلق أو يقصر إن شاء ، وإن كان معه هدي فلينحره قبل أن يحلق فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر ثم ليرجع إلى أهله ، فإن أدركه الحج قابلا فليحجج إن استطاع وليهد في حجه فإن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني سليمان بن يسار أن أبا أيوب خرج حاجا حتى إذا كان بالبادية من طريق مكة أضل رواحله وأنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر فذكر ذلك له فقال له اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإذا أدركك الحج قابلا حج وأهد ما استيسر من الهدي أخبرنا مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هبار بن الأسود جاء وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال له عمر اذهب فطف ومن معك وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا فإذا كان قابل حجوا وأهدوا { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } .

( قال الشافعي ) وبهذا كله نأخذ ، وفي حديث يحيى عن سليمان دلالة عن عمر أنه يعمل عمل معتمر لا أن إحرامه عمرة وإن كان الذي يفوته الحج قارنا حج قارنا وقرن وأهدى هديا لفوت الحج وهديا للقران ولو أراد المحرم بالحج إذا فاته الحج أن يقيم إلى قابل محرما بالحج لم يكن ذلك له وإذا لم يكن ذلك له فهذا دلالة على ما قلنا من أنه لا يكون لأحد أن يكون مهلا بالحج في غير أشهر الحج لأن أشهر الحج معلومات لقول الله عز وجل { الحج أشهر معلومات } فأشبه والله أعلم أن يكون حظر الحج في غيرها . فإن قال قائل فلم لم تقل أنه يقيم مهلا بالحج إلى قابل ؟ قيل لما وصفت من الآية والأثر عن عمر وابن عمر وما لا أعلم اختلفوا فيه وفي هذا دلالة على أنه لو كان له أن يقيم محرما بالحج إلى أن يحج قابلا كان عليه المقام ولم يكن له الخروج من عمل يقدر على المقام فيه حتى يكمله لأنا رأينا كذلك العمرة وكل صلاة وصوم كان له المقام فيها كان عليه أن يقيم فيها حتى يكملها إذا كانت مما يلزمه بكل حال وخالفنا بعض الناس وبعض مكيينا في محبوس عن الحج بمرض فقالوا هو والمحصر بعد ولا يفترقان في شيء وقال ذلك بعض من لقيت منهم وقال يبعث المحصر بالهدي ويواعده المبعوث بالهدي معه يوما يذبحه فيه عنه وقال بعضهم يحتاط يوما أو يومين بعد موعده ثم يحلق أو يقصر ثم يحل ويعود إلى بلده وعليه قضاء إحرامه الذي فاته وقال بعض مكيينا كما فاته لا يزيد عليه ، وقال بعض الناس بل إن كان مهلا بحج قضى حجا وعمرة لأن إحرامه بالحج صار عمرة وأحسبه قال : فإن كان قارنا فحجا وعمرتين لأن حجه صار عمرة .

وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة وقال لي بعض من ذهب إلى هذا القول : لا نخالفك في أن آية الإحصار نزلت في الحديبية وأنه إحصار عدو ، أفرأيت إذن الله تعالى [ ص: 182 ] للمحصر بما استيسر من الهدي ؟ ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذبح والإحلال كيف لم تجعل المحصر بالمرض قياسا على المحصر بالعدو أن تحكم له حكمك له ؟ فقلت له الأصل على الفرض إتمام الحج والعمرة لله والرخصة في الإحلال للمحصر بعدو فقلنا في كل بأمر الله عز وجل ولم نعد بالرخصة موضعها كما لم نعد بالرخصة المسح على الخفين ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياسا على الخفين فقال فهل يفترق الحصار بالعدو والمرض ؟ قلت : نعم ، قال وأين ؟ قلت المحصر بعدو خائف القتل على نفسه إن أقدم عليه وغير عالم بما يصير إليه منه إذا أقدم عليه وقد رخص لمن لقي المشركين أن يتحرف للقتال أو يتحيز إلى فئة فإذا فارق المحصر موضعه راجعا صار إلى حال أحسن من حاله في التقدم والمقام لمزايلة الخوف إلى الأمن والمريض ليس في شيء من هذه المعاني ، لا هو خائف بشرا ولا صائر بالرجوع إلى أمن بعد خوف ولا حال ينتقل عنه إلا رجاء البر والذي يرجوه في تقدمه رجاؤه في رجوعه ومقامه حتى يكون الحال به معتدلا له في المقام والتقدم إلى البيت والرجوع ، فالمريض أولى أن لا يقاس على المحصر بعدو ، من العمامة والقفازين والبرقع على الخفين ولو جاز أن يجهل ما وصفنا من الأصل في إتمام الحج والعمرة وأن المستثنى المحصر بعدو فقلنا الحبس ما كان كالعدو جاز لنا لو ضل رجل طريقا أو أخطأ عددا حتى يفوته الحج أن يحل فقال بعضهم ، إنا إنما اعتمدنا في هذا على الشيء رويناه عن ابن مسعود وبه قلنا .

قلت لو لم يخالفه واحد ممن سمينا إنا قلنا بقوله أما كنت محجوجا به ؟ قال : ومن أين ؟ قلت ألسنا وإياكم نزعم أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو اختلفا فكان قول أحدهما أشبه بالقرآن كان الواجب علينا أن نصير إلى أشبه القولين بالقرآن فقولنا أشبه بالقرآن بما وصفت لك ، أو رأيت لو لم نستدل على قولنا وقولك بالقرآن وكان قولنا أصح في الابتداء والمتعقب من قولك أكان قولنا أولى أن يذهب إليه ؟ قال : بلى ، إن كان كما تقول قلت : فهو كما أقول ومعنا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وثلاثة أكثر عددا من واحد ، قال فأين هو أصح ؟ قلت أرأيت إذا مرض فأمرته أن يبعث بهدي ويواعده يوما يذبح فيه عنه الهدي ثم يحلق أو يقصر ويحل ألست قد أمرته بأن يحل وأنت لا تدري لعل الهدي لم يبلغ محله وأنت تعيب على الناس أن يأمروا أحدا بالخروج من شيء لزمهم بالظنون ؟ قال فإنا لا نقول بظن ولكن بالظاهر قلت : الظاهر في هذا ظن ، ولو خرج الظاهر في هذا من أن يكون ظنا كنت أيضا متناقض القول فيه قال ومن أين ؟ قلت إذا كان الحكم في أمرك المريض بالإحلال بالموعد بذبح الهدي وكان الظاهر عندك أنه قد حل بهذه المدة فكيف زعمت أنه إن بلغه أن الهدي عطب أو ضل أو سرق وقد أمرته بالإحلال فحل وجامع وصاد ( قال ) يكون عليه جزاء الصيد والفدية ويعود حراما كما كان قلت وهكذا لو بعث الهدي عشرين مرة وأصابه مثل هذا قال ؟ نعم ، قلت أفلست قد أبحت له الإحلال ثم جعلت عليه الفدية فيما أبحت له والفساد فيه وجعلته في موضع واحد حلالا أياما وحراما أياما ؟ فأي قول أشد تناقضا وأولى أن يترك من هذا ؟ وأي شيء يؤخذ من قول أولى أن ترده العقول من هذا ؟ وقال أيضا في الرجل تفوته عرفة ويأتي يوم النحر فقال كما قلنا يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر وعليه حج قابل ثم خالفنا فقال لا هدي عليه وروى فيه حديثا عن عمر أنه لم يذكر فيه أمر بالهدي قال وسألت زيد بن ثابت بعد ذلك بعشرين سنة فقال كما قال عمر : وقال قد روينا هذا عن عمر ( قال ) فإلى قول من ذهبتم ؟ فقلت روينا عن عمر مثل قولنا

[ ص: 183 ] من أمره بالهدي .

قال رويتموه منقطعا وحديثنا متصل قلنا فحديثك المتصل يوافق حديثنا عن عمر ويزيد عليه الهدي ، والذي يزيد في الحديث أولى بالحفظ من الذي لم يأت بالزيادة عندنا وعندك قال لا أثبته لك بالحال عن عمر منقطعا فهل ترويه عن غير عمر ؟ قلنا : نعم عن ابن عمر كما قلنا متصلا قال فكيف اخترت ما رويت عن ابن عمر على ما روينا عن عمر ؟ قلنا روينا عن عمر مثل روايتنا عن ابن عمر وإن لم يكن متصلا قال أفذهبت فيما اخترت من قول ابن عمر إلى شيء غير تقليد ابن عمر فيكون لنا تقليد عمر على ابن عمر ؟ فقلت له : نعم ذهبت إلى ما يلزمك أنت خاصة أكثر مما يلزم الناس حتى يكون عليك ترك قولك لقولنا قال وأين ؟ قلت له زعمت أن الحائض إذا لم تطهر إلى عرفة وهي معتمرة رفضت العمرة وأهلت بالحج وأهراقت لرفض العمرة دما وكان عليها قضاؤها ثم قلتم هذا فيمن خاف فوت الحج من الرجال المعتمرين قال قد قلته في الحائض وفيمن خاف فوت الحج من الرجال المعتمرين ثم شككت في الرجال المعتمرين وأنا ثابت على الحائض بما روينا فيها فقلت له ولم شككت هل كان عليها أن تهريق دما عندك إلا لفوت العمرة ؟ قال فإن قلت ليس لفوت العمرة ؟ قلت فقل ما شئت قال لخروجها من العمرة بلا فوت لأنها لو شاءت أقامت على العمرة قلت فما تقول إن لم يرهقها الحج فأرادت الخروج من العمرة بدم تهريقه ثم تحج وتقضي العمرة ؟ قال ليس ذلك لها ، قلت فهل أمرتها بالخروج من العمرة إلا بفوتها عندك وهي لو أقامت على العمرة لم يكن عليها شيء والحاج عندك إذا فاته الحج لم يكن له المقام على الحج وكان قد خرج منه قبل يكمله كما خرجت الحائض من العمرة قبل تكملها فلم جعلت على الحائض دما لخروجها قبل إكمال الإحرام الذي لزمها ولم تجعل ذلك على الحاج وقد خرج منه قبل إكمال الإحرام الذي لزمه واجتمعا في هذا المعنى وفي أنهما يقضيان ما خرجا منه فكيف فرقت بينهما في الدم ؟ .

وقلتم عن ابن عمر إن رجلا لو كان عليه صوم من شهر رمضان فنسيه إلى أن يأتي رمضان آخر فصامه أنه يصوم بعده ما عليه من الشهر لرمضان الذي نسي ويتصدق عن كل يوم على مسكين لأنه لم يأت بالصوم في موضعه ، فالحاج يفوته الحج في مثل معناه وأولى أن تقولوا به فيه وخالفنا أيضا فقال إن كان الذي فاته الحج مفردا بالحج فعليه حج وعمرة وإن كان قارنا فعليه حج وعمرتان فقلت له أقلت هذا خبرا أم قياسا ؟ فلم يذكر خبرا نراه ولا عنده هو إذا أنصف حجة قال قياسا ، قلنا فعلى أي شيء قسته ؟ قال إن عمر قال اعمل ما يعمل المعتمر فدل هذا على أن حجه صار عمرة فقلت له لما لم يكن يخرج من الإحرام إلا بطواف وسعي في حج كان أو عمرة وكان الطواف والسعي كمال ما يخرج به من العمرة ، وعرفة والجمار ومنى والطواف كمال ما يخرج به من الحج ، فكان إذا فاتته عرفة لا حج له ولا عمل عليه من عمل الحج فقيل اخرج بأقل ما يخرج به من الإحرام وذلك عمل معتمر لا أن حجه صار عمرة أرأيت لو كانت عليه عمرة واجبة فنوى بهذا الحج عمرة ففاتته أيقضي العمرة الواجبة عنه ؟ قال : لا . لأنه عقده حجا قلت فإذا عقده حجا لم يصر عندك عمرة تجزي عنه ؟ قال لا . فقلت فمن أين زعمت أنه عمرة وهو لا يجزي عنه من عمرة واجبة ولو ابتدأ بإحرامه ابتدأ العمرة الواجبة عليه ؟ .

وقلت له ولو كان صار عمرة كان أبعد لقولك أن لا تقول عليه حج ولا عمرة لأنه قد قضى العمرة وإنما فاته الحج فلا يكون عليه حج وعمرة فقال إنما قلته لأن الحج تحول عمرة ففاته لما فاته الحج فقلت له : ما أعلمك تورد حجة إلا كانت عليك أرأيت إحرامه بالحج متى صار عمرة ؟ قال بعد عرفة ، قلت فلو ابتدأ الإحرام بعد عرفة بعمرة أيكون غير محرم بها أو محرما يجزيه العمل عنها ولا يقضيها ؟ قال فنقول ماذا ؟ قلت أيهما قلت فقد لزمك ترك ما [ ص: 184 ] احتججت به قال فدع هذا قلت أقاويلك متباينة قال وكيف ؟ قلت رويت عن عمر أنه أمر من فاته الحج يطوف ويسعى ويقصر أو يحلق ويحج قابلا وقلت له كان عليه هدي أمره به ، وردت روايتنا عنه أنه أمر بالهدي ، فإن قلت هي مقطوعة فكيف إذا كان في روايتك عنه أنه أمره بحج قابل ولم يأمره بعمرة ، فلم لا تقول : لا عمرة عليه اتباعا لقول عمر وزيد بن ثابت وروايتنا عن ابن عمر ؟ ما أعلمك إلا قصدت قصد خلافهم معا ثم خالفتهم بمحال فقلت لرجل فاته الحج : عليك عمرة وحج وهل رأيت أحدا قط فاته شيء فكان عليه قضاء ما فاته وآخر معه ؟ والآخر ليس الذي فاته لأن الحج ليس عمرة والعمرة ليست بحج .

التالي السابق


الخدمات العلمية