صفحة جزء
وعن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة والذي يليه كالمهدي بقرة والذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة وللشيخين ومن راح في الساعة الثانية فذكر خمس ساعات وفي رواية للنسائي بإسناد صحيح قال في الساعة الخامسة كالذي يهدي عصفورا وفي السادسة بيضة وفي رواية له بإسناد صحيح قال في الرابعة كالمهدي بطة ثم كالمهدي دجاجة ثم كالمهدي بيضة .


(الحديث الرابع) وعن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم إذا [ ص: 170 ] كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة والذي يليه كالمهدي بقرة والذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة (فيه) فوائد :

(الأولى) هذان الحديثان إسنادهما واحد وهما في مسند أحمد رحمه الله هكذا منفصلين فتبعه والدي رحمه الله في ذلك لأنه إنما أورده من طريقه وجمع بينهما مسلم والنسائي وابن ماجه فجعلوهما حديثا واحدا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد ورواه النسائي عن محمد بن منصور ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار وسهل بن أبي سهل خمستهم عن سفيان بن عيينة زاد ابن ماجه عن أحد شيخيه سهل فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة وأخرجه الشيخان والنسائي من طريق الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة بتمامه وفي رواية النسائي ثم كالمهدي بطة ثم كالمهدي دجاجة ثم كالمهدي بيضة وأخرج البخاري القطعة الأولى منه من طريق الزهري عن أبي سلمة والأغر كلاهما عن أبي هريرة وأخرج مسلم من طريق سهيل من أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب الأول فالأول مثل الجزور ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف وحضروا الذكر وروى [ ص: 171 ] الشيخان والترمذي والنسائي من طريق مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ورواه النسائي أيضا من طريق محمد بن عجلان عن سمي وفيه " وكرجل قدم دجاجة وكرجل قدم عصفورا وكرجل قدم بيضة " .

(الثانية) فيه فضل التبكير إلى الجمعة لما دل عليه من اعتناء الملائكة بكتابة السابق وأن الأسبق أكثر ثوابا لتشبيه المتقدم بمهدي البدنة والذي يليه بمهدي ما هو دونها وهي البقرة وهكذا وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأكثر أصحابه وأحمد بن حنبل والأوزاعي وابن حبيب من المالكية والجمهور واختلف أصحابنا في ابتداء ذلك طلوع الفجر أو طلوع الشمس والأصح عندهم طلوع الفجر وقال والدي رحمه الله ولكن ليس العمل عليه في أمصار الإسلام قديما وحديثا أن يبكر للجمعة من طلوع الفجر وفيه طول يؤدي إلى انتقاض الطهارة وتخطي الرقاب وصحح الماوردي أن التبكير من طلوع الشمس ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب قال ابن الرفعة ويؤذن به قول الشافعي رضي الله عنه ويجزئه غسله لها إذا كان بعد الفجر قال والدي رحمه الله وأهل علم الميقات يجعلون ابتداء ساعات النهار من طلوع الشمس ويجعلون ما بين طلوع الفجر والشمس من حساب الليل واستواء الليل والنهار عندهم إذا تساوى ما بين غروب الشمس وطلوعها وما بين طلوعها وغروبها انتهى وذهب مالك وأكثر أصحابه إلى أن الأفضل تأخير الذهاب إلى الجمعة إلى الزوال وقال به من أصحابنا القاضي الحسين وإمام الحرمين ولأصحابنا وجه رابع أن التبكير إلى الجمعة من ارتفاع النهار حكاه الصيدلاني في شرح المختصر وزعم قائله أن هذا وقت التهجير ومما يرد ما ذكره المالكية في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلا بالزوال في أول الوقت وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه إذا خرج الإمام لم يكتبوا أحدا بل يطوون الصحف ويجلسون [ ص: 172 ] لاستماع الخطبة فكيف يمكن مع ذلك بعد الزوال كتابة الناس على هذه المراتب المذكورة في الحديث قبل خروج الإمام مع أن خروجه مقارن للزوال وما كان يؤذن في أول الوقت إلا بين يديه وهو على المنبر ؟ .

(الثالثة) تعلق المالكية من هذا الحديث بأمرين : أحدهما قوله فيه يكتبون الأول فالأول فأتى بالفاء المقتضية للترتيب بلا مهلة فاقتضى تعقيب الثاني للأول وكذا من بعده ولو كان كما يقوله الجمهور من اعتبار أول النهار وتقسيمه إلى ست ساعات في النصف الأول من النهار لم يكن الآتي في أول ساعة يعقبه الآتي في أول التي تليها والجواب عنه أنه لا نزاع في أنهم يكتبون من جاء أولا ومن جاء عقبه وهكذا وهو إنما أتى بالفاء في كتابة الآتين وأما مقدار الثوب فلم يأت فيه بالفاء (ثانيهما) قوله المهجر والتهجير إنما يكون في الهاجرة وهي شدة الحر وذلك لا يكون في أول النهار والجواب عنه من وجهين :

(أحدهما) أن كون التهجير معناه الإتيان في الهجير وهو شدة الحر قول محكي عن الفراء وغيره والذي قاله الخليل بن أحمد وغيره من أهل اللغة أن التهجير التبكير فإن ثبت اشتراك اللفظ بين المعنيين فالحمل على هذا المعنى الثاني أولى ليوافق غيره من الأحاديث (ثانيهما) أن المراد بالمهجر من هجر منزله وتركه في أي وقت كان قاله بعض أصحابنا الشافعية وقال القاضي عياض وأقوى معتمد مالك في كراهية البكور إليها عمل أهل المدينة المتصل بترك ذلك وسعيهم إليها قرب صلاتها وهذا نقل معلوم غير منكر عندهم ولا معمول بغيره وما كان أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره ويتمالئون على العمل بأقل الدرجات وذكر ابن عبد البر أيضا أن عمل أهل المدينة يشهد له انتهى وما أدري أين العمل الذي يشهد له وعمر ينكر على عثمان رضي الله عنه التخلف والنبي صلى الله عليه وسلم يندب إلى التبكير في أحاديث كثيرة منها أحاديث أوس بن أوس بن بكر وابتكر وفي آخره كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها وهو في السنن الأربعة وصحيحي ابن حبان والحاكم وقد أنكر غير واحد من الأئمة على مالك رحمه الله في هذه المسألة فقال الأثرم قيل لأحمد كان مالك يقول لا ينبغي التهجير يوم الجمعة فقال هذا خلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال سبحان الله إلى أي [ ص: 173 ] شيء ذهب في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كالمهدي جزورا وأنكر على مالك أيضا ابن حبيب إنكارا بليغا فقال هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه لأنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وزهد فيما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير في أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس حكاه عن ابن عبد البر وقال هذا منه تحامل على مالك .

(الرابعة) قد يستدل بعمومه على استحباب التبكير للخطيب أيضا لكن ينافيه قوله في آخره فإذا خرج الإمام طويت الصحف فدل على أنه لا يخرج إلا بعد انقضاء وقت التبكير المستحب في حق غيره وقد قال الماوردي من أصحابنا يختار للإمام أن يأتي الجمعة في الوقت الذي تقام فيه الصلاة ولا يبكر اتباعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم واقتداء بالخلفاء الراشدين قال ويدخل المسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر انتهى .

(الخامسة) فيه أن مراتب الناس في الفضيلة في الجمعة وغيرها بحسب أعمالهم وهو من باب قوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وروى ابن ماجه عن علقمة قال خرجت مع عبد الله إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول والثاني والثالث ثم قال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد .

(السادسة) هؤلاء الملائكة وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة وهم غير الحفظة كذا نقله النووي وغيره واستدل له القاضي عياض بقوله فإذا خرج الإمام طويت الصحف والمراد ما ذكره ابن العربي وغيره صحف المتسابقين المبكرين وفي مسند أحمد عن أبي غالب قلت يا أبا أمامة ليس لمن جاء بعد خروج الإمام جمعة ؟ قال بلى ولكن ليس ممن يكتب في الصحف وفي رواية ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة .

(السابعة) رتب في هذا الحديث السابقين إلى الجمعة على خمسة مراتب أولها كمهدي البدنة والثاني كمهدي البقرة والثالث كمهدي الكبش والرابع كمهدي الدجاجة والخامس كمهدي البيضة وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة المتقدم ذكرها في [ ص: 174 ] الفائدة الأولى ترتيب هذه المراتب على خمس ساعات فقال الجمهور المراد بهذه الساعات الأجزاء الزمانية التي يقسم النهار منها على اثني عشر جزءا واختلف أصحابنا هل يكون ابتداؤها من طلوع الفجر أو الشمس والصحيح عندهم من طلوع الفجر وفيه ما تقدم وقال المالكية المراد بها لحظات لطيفة بعد زوال الشمس وهو خلاف ظاهر اللفظ والمتبادر إلى الفهم منه فإن المفهوم منه إنما هو الساعات المعروفة قال بعض أصحابنا وقد ورد التصريح بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة فمن راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة الحديث ولم أقف على هذا الحديث هكذا نعم روى أبو داود والنسائي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة الحديث في ساعة الإجابة وفيه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر وهو صحيح الإسناد فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة لكن لا في معرض التبكير بل في معرض ساعة الإجابة لكنه يستأنس به في التبكير أيضا والله أعلم .

ومما يرد على المالكية في ذلك أنا إذا خرجنا عن الساعات الزمانية لم يبق لنا مراد ينقسم فيه الحال إلى خمس مراتب بل يكون مقتضاه تفاوت الفضل بحسب تفاوت السبق ويتأتى من هذا مراتب كثيرة جدا ذكره الشيخ تقي الدين في شرح العمدة بمعناه ثم قال فإن قلت يجعل الوقت من التهجير مقسما على خمسة أجزاء ويكون ذلك مرادا قلت يشكل ذلك لوجهين : (أحدهما) أن الرجوع إلى ما تقرر من تقسيم الساعات إلى اثني عشر أولى .

(الثاني) أن القائلين بأن التهجير أفضل لا يقولون بذلك على هذه القسمة فإن القائل قائلان قائل يقول بترتيب منازل السابقين على غير تقسيم الأجزاء الخمسة وقائل يقول بتقسيم الأجزاء ستة إلى الزوال فالقول بتقسيم هذا الوقت إلى خمسة إلى الزوال مخالف للكل وإن كان قد قال به قائل فليكتف بالوجه الأول انتهى واعترض المالكية على ما ذكرناه بأمور (أحدها) أنه لا يصح حمل الحديث على الساعات الاثني عشرة لأنه حينئذ يقتضي أنه بعد الساعة الخامسة يخرج الإمام وتطوي الملائكة الصحف لاستماع الذكر وليس كذلك فإن خروج الإمام إنما يكون بعد السادسة والجواب عنه [ ص: 175 ] أنه ورد ذكر الساعة السادسة في هذا الحديث ففي رواية للنسائي بإسناد صحيح بعد الكبش دجاجة ثم عصفور ثم بيضة وفي رواية له بسند صحيح بعد الكبش بطة ثم دجاجة ثم بيضة وقد ذكرتهما في الفائدة الأولى وقال النووي في الخلاصة هاتان الروايتان وإن صح إسنادهما فقد يقال هما شاذتان لمخالفتهما الروايات المشهورة انتهى قال أبو بكر بن العربي وفائدة ذكر البطة أنه حيوان متوحش لا يوصل إليه إلا بصيد وكلفة فكان أفضل من الدجاجة في التقرب به قلت الظاهر أنه لم يفضل بالكلفة في صيده بل بكونه أكبر وأكثر لحما وجمع ابن العربي بين البطة والعصفور فقال جعل مراتب الرواح في هذا الحديث سبعة بدنة ثم بقرة ثم شاة ثم بطة ثم دجاجة ثم عصفور ثم بيضة انتهى وفيه نظر فإنه لم يجمع بينها هكذا في حديث واحد وإنما ذكر البطة في حديث والعصفور في آخر لكن ابن العربي لم يعز هذا للنسائي فلعله اطلع عليه في كتاب آخر لم نقف عليه وقد رأيت في معجم الطبراني الكبير من طريق بشر بن عون عن بكار بن تميم عن مكحول عن واثلة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يبعث الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجد يكتبون القوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس فإذا بلغوا السابعة كانوا بمنزلة من قرب العصافير وبكار بن تميم مجهول وبشر بن عون روي عنه نسخة بهذا الإسناد نحو مائة حديث كلها موضوعة قال الذهبي في الميزان فإن ثبت هذا فتكون الملائكة تكتب الآتي في الساعة السابعة أيضا لكن هذا مخالف لقوله في رواية الصحيحين أنهم يطوون الصحف عند خروج الإمام وقد كان خروجه عليه الصلاة والسلام في أول السابعة كما تقدم وعلى تقدير أن لا تصح رواية النسائي التي تقتضي الساعة السادسة فلا محذور في أن لا تكتب أهل الساعة السادسة في السابقين والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء (الأمر الثاني) قالوا مقتضى الحمل على الساعات الزمانية أن تتساوى مراتب الناس في كل ساعة فمن أتى في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة سواء أكان مجيئه في أول الساعة أو في آخرها وهذا خلاف ما قامت عليه الأدلة أن السابق لا يساويه من جاء بعده والجواب أن من جاء في أول الساعة ومن جاء في آخرها وإن اشتركا في تحصيل البدنة [ ص: 176 ] مثلا لكن بدنة الأول أكمل فيكون التفاوت في الساعة الواحدة بحسب الصفات ويدل لذلك قوله في رواية للنسائي والناس فيه كرجل قدم بدنة وكرجل قدم بدنة وكذا كرر سائر المذكورات بعد البدنة إشارة إلى أن الآتيين في ساعة واحدة وإن اشتركا في التقرب بمسمى البدنة اختلفا من جهة أن بدنة السابق أعظم من بدنة المتأخر وهذا كما أن صلاة الجمعة تضاعف سبعا وعشرين درجة مع صدق الجماعة بالإمام والمأموم وبالعدد الكثير وذات العدد الكثير أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام وما كثر فهو أحب إلى الله ففضل ذات العدد الكثير على ذات العدد القليل بكبر الدرجة مع اشتراك الكل في سبع وعشرين درجة والله أعلم .

الأمر الثالث أنه عبر في تلك الرواية التي فيها ترتيب السابقين على خمس ساعات بقوله ثم راح والرواح لا يكون إلا بعد الزوال كما ذكره الجوهري وغيره والجواب عنه أن الرواح يستعمل لغة في الذهاب في أي وقت كان كما ذكره الأزهري والحمل عليه هنا أرجح لتعداده هذه الساعات فإنه لا يتصور بعد الزوال خمس منها وبتقدير أن تحمل على المعنى الأول وهو اختصاص الرواح بما بعد الزوال فيمكن أن يسمى القاصد إلى الجمعة رائحا وإن كان قبل الزوال باعتبار أنه قصد ما يفعل بعد الزوال وهو وقت الرواح كما يقال لقاصد مكة قبل أن يحج حاج وللمتساومين متبايعان ومثل هذا الاستعمال لا ينكر والله أعلم .

وقال الرافعي بعد حكاية الخلاف في ابتداء زمن التبكير وليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها وإنما المراد ترتيب الدرجات وفضل السابق على الذي يليه واحتج القفال عليه بوجهين (أحدهما) أنه لو كان المراد الساعات المذكورة لاستوى الجائيان في الفضل في ساعة واحدة مع تعاقبهما في المجيء (والثاني) أنه لو كان كذلك لاختلف الأمر باليوم الشاتي والصائف ولتفاوت الجمعة في اليوم الشاتي لمن جاء في الساعة الخامسة وتبعه على ذلك النووي في الروضة لكنه خالفه في شرح المهذب فقال فيه المراد بالساعة الساعات المعروفة خلافا لما قاله الرافعي ولكن بدنة الأول أكمل من بدنة الثاني كما يقول [ ص: 177 ] في السبع والعشرين درجة إنها تترتب على مسمى الجماعة ولكن درجات الأكثر جماعة تكون أكمل من الأقل انتهى وهذا الذي ذكره النووي جواب عن احتجاج القفال الأول والجواب عن احتجاجه الثاني ما أجاب به والدي رحمه الله في شرح الترمذي فقال أهل الميقات لهم اصطلاحان في الساعات فالساعات الزمانية كل ساعة منها خمس عشرة درجة والساعات الآفاقية يختلف قدرها باختلاف طول الأيام وقصرها في الصيف والشتاء فالنهار اثنتا عشرة ساعة ومقدار الساعة يزيد وينقص ويشهد لهذا الاصطلاح الثاني قوله عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة كما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح وصححه الحاكم فلم يفرق بين الصيف والشتاء فهو دائما اثنتا عشرة ساعة وعلى هذا الثاني تحمل الساعات المذكورة في الحديث فلا يلزم عليه ما ذكره من اختلاف الأمر باليوم الشاتي والصائف ومن فوات الجمعة في الشتاء لمن جاء في الساعة الخامسة قال والدي رحمه الله ثم بعد أن خطر لي هذا الجواب رأيته في كلام القاضي الحسين فحكى الخلاف في أن الاعتبار في حيازة الفضيلة التي قدرها الشرع تجعل النهار اثنتي عشرة ساعة صيفا كان أو شتاء والمقدم يكون في إدراك خمس ساعات منها طالت في الصيف أو قصرت في الشتاء أو الاعتبار في ذلك بالساعات الزمانية وإن تعاقبت لحظات وأنه ليس الخلاف في أن المراد بالساعات التي قسم الليل والنهار عليها شتاء وصيفا على ما يعتقده أهل الحساب فيكون نهار الشتاء منها تسع ساعات وشيئا ونهار الصيف منها أربع عشرة ساعة وشيئا فإنا لو اعتبرنا ذلك لزم ما تقدم انتهى .

(الثامنة) أطلق في هذه الرواية أن المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة وقيد في الرواية الأخرى فقال : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة فاقتضى هذا أن التهجير إلى الجمعة إنما يكون كإهداء البدنة وكذا المذكورات بعده بشرط تقدم الاغتسال عليه في ذلك اليوم والقاعدة حمل المطلق على المقيد .

(التاسعة) ذكر في الصحاح والمحكم أن البدنة من الإبل والبقر ما أهدي إلى مكة وكذا قال في النهاية إنها تطلق عليهما قال [ ص: 178 ] وهي بالإبل أشبه وذكر القاضي عياض أنها تختص بالإبل وقال النووي قال جمهور أهل اللغة وجماعة من الفقهاء تقع على الواحدة من الإبل والبقر والغنم وخصها جماعة بالإبل والمراد هنا الإبل بالاتفاق لتصريح الحديث بذلك انتهى قالوا سميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها وقال إمام الحرمين من أئمة أصحابنا البدنة في اللغة الإبل ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة وسبعا من الغنم واعلم أن البدنة والبقرة يقعان على الذكر والأنثى باتفاق أهل اللغة والهاء فيهما واحدة كقمحة وشعيرة ونحوهما من أفراد الجنس وليست للتأنيث وأما الكبش ؟ في المحكم هو فحل الضأن في أي سن كان وقيل هو كبش إذا أثنى وقيل إذا أربع والجمع أكبش وكباش والدجاجة بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان والفتح أفصح ويقع على الذكر والأنثى لأن الهاء فيها للوحدة لا للتأنيث والجمع دجاج بفتح الدال وكسرها ودجائج قال في المحكم سميت بذلك لإقبالها وإدبارها .

(العاشرة) استدل به على أن الأفضل في الهدي والأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم لكونه عليه الصلاة والسلام قدم الإبل وجعل البقر في الدرجة الثانية والغنم في الثالثة وهذا مجمع عليه في الهدي وقال به في الأضحية أيضا أبو حنيفة والشافعي والجمهور وقال مالك الأفضل في الأضحية الغنم ثم البقر ثم الإبل ومنهم من قدم الإبل على البقر حكاه القاضي عياض قالوا والمقصود في الأضاحي طيب اللحم وفي الهدايا كثرة اللحم واحتجوا بأمور :

(أحدها) قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم وكان كبشا قال بعضهم لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق وورد في حديث رواه البزار وابن عبد البر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليهما الصلاة والسلام في أثناء حديث علي اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من السيد من المعز ومن البقر والإبل ولو علم الله ذبحا خيرا منه لفدى به إبراهيم ابنه قال ابن عبد البر وهذا الحديث لا أعلم له إسنادا غير هذا انفرد به الجنيني وليس ممن يحتج به (ثانيها) أنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين فلو كان الإبل والبقر أفضل لما عدل عنهما إلى الغنم (ثالثها) أنه عليه الصلاة والسلام قال خير الأضحية الكبش الأقرن رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت [ ص: 179 ] بإسناد صحيح والجواب عن الأول من وجهين : (الأول) أنه لا يلزم من كون الكبش عظيما أن لا يكون غيره من الأنعام وغيرها أعظم منه الثاني لو سلم ذلك فهذا أمر خاص بذلك الكبش لأنه ذكر عن ابن عباس أنه رعى في الجنة أربعين خريفا وأنه الذي قربه ابن آدم فتقبل منه ورفع إلى الجنة فلذلك قيل فيه عظيم والجواب عن الثاني أنه لا يلزم من تضحيته عليه الصلاة والسلام بكبشين ترجيح الغنم لأمرين :

(أحدهما) أنه قد ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن نسائه بالبقر فلو دل تضحيته بالغنم على أفضليتها لدلت تضحيته بالبقر على أفضليتها ويتعارض الخبران (ثانيهما) أنه ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أهدى غنما فلو دلت تضحيته بالغنم على أفضليتها في الأضحية لدل إهداؤه لها على أفضليتها في الهدايا وليس كذلك بالاتفاق كما تقدم وقول القاضي عياض إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحى بالضأن وما كان ليترك الأفضل كما لم يتركه في الهدايا فيه نظر لما قدمناه أنه ضحى بغير الضأن وأنه ترك الأفضل في حقنا في الهدايا فأهدى الغنم وكان عليه الصلاة والسلام إذا فعل العبادة المفضولة كانت في حقه فاضلة لكونه يبين بذلك شرعيتها وقد تحمل تضحيته عليه الصلاة والسلام بالكبشين على أنه لم يجد ذلك الوقت إلا الغنم أو أنه فعله لبيان الجواز والله أعلم .

والجواب عن الثالث وهو أقوى ما استدلوا به أنه محمول على تفضيل الكبش على مساويه من الإبل والبقر فإن البدنة والبقرة كل منهما يجزئ عن سبعة فيكون المراد تفضيل الكبش على سبع بدنة وسبع بقرة أو تفضيل سبع من الغنم على البدنة والبقرة لتتفق الأحاديث فإن ظاهر الحديث الذي نحن في شرحه موافق للجمهور قال والدي رحمه الله وقد يجاب بأن المراد خير الأضحية بالغنم الكبش قال وفيه تعسف انتهى واحتج الجمهور أيضا بقياس الضحايا على الهدايا وأيضا فقيل في قوله تعالى فما استيسر من الهدي أن المراد شاة وذلك يدل على نقصان مرتبتها عن غيرها من النعم وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الرقاب فقال أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا شك في أن الإبل والبقر أنفس عند الناس وأغلى ثمنا من الغنم .

(الحادية عشرة) استدل به على أن من التزم هديا يكفيه أن يخرج ناقة أو [ ص: 180 ] بقرة أو شاة لأنه عليه الصلاة والسلام أطلق لفظ الهدي على الثلاثة وقد اتفق العلماء على ذلك في الإبل والبقر واتفق عليه أصحابنا في الغنم أيضا وقال القاضي عياض أجاز مالك مرة الشاة ومرة لم يجزها إلا أن من قصر النفقة على تضعيف منه فيها وبنى القاضي الخلاف على أن الغنم هل هي من الهدي أم لا .

(الثانية عشرة) استدل به على أن من التزم هديا مطلقا يكفيه إخراج الدجاجة والبيضة أيضا وهو أحد قولي الشافعي وينسب إلى الإملاء والقديم والصحيح من مذهبه أنه يتعين النعم وهو قوله في الجديد وحكى عن أبي حنيفة وأحمد ويحتج لهذا بأن معنى الإهداء هنا التصديق لا بقيد الصدقة المخصوصة والصدقة تنطلق على القليل والكثير وهذان القولان مبنيان على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجب الشرع ؟ فإن قلنا بالأول فيحمل النذر على أقل ما يتقرب به وإن قلنا بالثاني حمل على أقل ما يجب من ذلك الجنس وهو أقل مجزئ في الأضحية قال أصحابنا وصورة القولين أن يقول لله علي هدي أو لله علي أن أهدي فأما لو قال لله علي أن أهدي الهدي فإنهم لم يجروا فيه الخلاف بل جزموا بانصراف النذر إلى المعهود شرعا وهو المجزئ في الأضحية وأجاب القاضي عياض عن هذا الحديث بأنه لما عطفه على ما قبله من الهدايا أعطاه حكمه في اللفظ كقولهم متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا فكأنه قال كالمتقرب بالصدقة بدجاجة أو بيضة وأطلق على ذلك اسم الهدي لتقدمه وتجنيس الكلام به انتهى .

(الثالثة عشرة) استدل به على أنه إذا قال لله علي أن أهدي بدنة ولم يذكر الإبل لفظا ولا نواها أنه يتعين الإبل فإنه عليه الصلاة والسلام جعل في مقابلتها البقرة والكبش فدل على أنه لا ينطلق عليهما لأن قسيم الشيء لا يكون قسما منه وفي المسألة لأصحابنا ثلاثة أوجه :

(أحدها) تعين الإبل كما ذكرناه (وثانيها) إجزاء بقرة وسبع من الغنم أيضا (وثالثها) وهو الأصح الذي نص عليه الشافعي تعين الإبل عند وجودها وإجزاء البقرة عند عدمها وإجزاء الغنم عند عدمهما وقد تقدم كلام أهل اللغة في تفسير البدنة ونقل القاضي عياض عن عطاء أن البدن لا تكون إلا من الإبل وحدها وعن مالك أنه يرى البقر ؟ [ ص: 181 ] من البدن .

(الرابعة عشرة) أطلق في الأولى ذكر البدنة وفي الثانية ذكر البقرة ولم يطلق في الثالثة ذكر الشاة بل قيد ذلك بالكبش وتقدم من سنن النسائي وكرجل قدم شاة فأطلقها كما أطلق البدنة والبقرة وفي سنن ابن ماجه من طريق الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل الجمعة ثم التبكير كتاجر البدنة كتاجر البقرة كتاجر الشاة حتى ذكر الدجاجة ولا شك أن الآتين إلى الجمعة في الساعة الثالثة متفاوتون فبعضهم كمن قرب كبشا وبعضهم كمن قدم دون ذلك من أنواع الغنم .

(الخامسة عشرة) فيه إجزاء الجذع من الضأن في الهدايا والضحايا وهذا مذهب الأئمة الأربعة وهذا بناء على ما تقدم عن صاحب المحكم أن الكبش فحل الضأن في أي سن كان وحكي عن ابن عمر أنه لا يجزئ من الضأن إلا الثني كغيره من المعز والإبل والبقر وهذا مبني على القول الآخر أنه لا يقال له كبش إلا إذا أثنى والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية