صفحة جزء
باب النهي عن الصلاة في الحرير عن عقبة بن عامر أنه قال أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم نزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ، ثم قال : لا ينبغي هذا للمتقين


(باب النهي عن الصلاة في الحرير) (الحديث) الأول عن عقبة بن عامر أنه قال : أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم نزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم قال لا ينبغي هذا للمتقين (فيه) فوائد :

(الأولى) أخرجه الشيخان والنسائي من طريق الليث بن سعد وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد الحميد بن جعفر كلاهما عن [ ص: 218 ] يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة وفي روايتهم بعد قوله ثم صلى فيه ثم انصرف .

(الثانية) الفروج بفتح الفاء وضم الراء وتشديدها وآخره جيم هذا هو الصحيح المشهور في ضبطه ولم يذكر الجمهور غيره قال النووي في شرح مسلم وحكي ضم الفاء وحكى القاضي عياض تخفيف الراء وتشديدها قال النووي والتخفيف غريب ضعيف قالوا وهو قباء مشقوق من خلفه واعتبر فيه أبو العباس القرطبي كونه ضيق الكمين ضيق الوسط وأغرب بأمر آخر ، وهو أنه قال إن المعروف ضم الفاء ، وجعل الفتح غريبا ، والمعروف عكس ما قال أما الصغير من ذكور أولاد الدجاج فقال القاضي عياض هو بضم الفاء لا غير ، وضبطه صاحب المحكم بالفتح ثم قال ، والضم لغة فيه رواه الليحاني ، واعلم أن الرواية فروج حرير بالإضافة ، ونقل البخاري عن غير الليث أنه قال فروج حرير أي برفعهما على ترك الإضافة ، وأن الثاني تابع للأول على أنه بدل أو عطف بيان .

(الثالثة) وفيه قبوله صلى الله عليه وسلم للهدية ، وذلك معروف من عادته أما العمال بعده فيحرم عليهم قبول الهدايا إلا ما يستثنى من ذلك كما هو معروف في موضعه .

(الرابعة) لبس النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الفروج كان قبل تحريم الحرير على الرجال كما صرح به القاضي عياض والنووي ، وغيرهما ، وهو واضح لا بد من القول به ، ونزعه له الظاهر أنه لورود تحريمه ، ويدل لذلك ما في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوما قباء من ديباج أهدي له ثم أوشك أن نزعه فأرسل به إلى عمر بن الخطاب فقيل له قد أوشك ما نزعته يا رسول الله فقال نهاني عنه جبريل الحديث قال النووي ، ولعل أول النهي والتحريم كان حين نزعه ، ولهذا قال في حديث جابر نهاني عنه جبريل فيكون هذا أول التحريم انتهى قال القاضي عياض ، وهذا أولى من قول من قال لعله نزعه لكونه من زي العجم انتهى .

وعلى الأول ففيه دلالة على أنه لا كراهة في لبس الثياب الضيقة المفرجة لكونه لم يكرهه لهذه الهيئة بل لكونه حريرا طرأ تحريمه ، وعلى الثاني ففيه كراهة لبسها لأنه كرهه حينئذ لهيئته الخاصة ، والله أعلم .

(الخامسة) بوب عليه البخاري في صحيحه باب من صلى [ ص: 219 ] في فروج حرير ثم نزعه ، وقال ابن بطال اختلف العلماء فيمن صلى بثوب حرير فقال الشافعي وأبو ثور يجزئه ، ونكرهه .

وقال ابن القاسم عن مالك يعيد في الوقت إن وجد غيره ، وعليه جل أصحابه ، وقال أشهب لا إعادة عليه في وقت ، ولا غيره ، وهو قول أصبغ ، وروي عن ابن وهب ، واستخف ابن الماجشون لباس الحرير في الحرب والصلاة به للترهيب على العدو والمباهاة ، وقال آخرون : إن صلى بثوب حرير ، وهو يعلم أن ذلك لا يجوز أعاد الصلاة قال ابن بطال ، ومن أجاز الصلاة فيه احتج بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعاد الصلاة التي صلى فيها ، ومن لم يجز أخذ بعموم تحريم لباس الحرير للرجال قال هذا كلام باطل قبيح مقتضاه أنه عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب الحرير في حالة كون لبسه حراما لأن المسألة المختلف فيها إذا صلى فيما لا يجوز من غير أن يكون تحريمه مختصا بحالة الصلاة كالحرير ، والمغصوب ، ونحوهما ، والجمهور صححوا الصلاة ، وعن أحمد رواية بإبطالها ، ومنشأ الخلاف أن النهي هل يقتضي الفساد في هذه الصورة فالجمهور قالوا لا يقتضي الفساد لكونه غير خاص بالعبادة بل هو أعم منها أما لو صلى في ثوب حرير حين كان لبسه مباحا فالصلاة صحيحة من غير توقف في ذلك ، وهذه الصلاة كانت قبل التحريم بلا شك فهي صحيحة لا يجب على فاعلها إعادة من غير خلاف ، وليست في محل النزاع حتى يستدل بها لأحد القولين ثم في كلامه خلل آخر ، وهو قوله ، ومن أجاز الصلاة فيه ، ولا أحد ممن يعتد به يجيز الصلاة فيه الآن مطلقا ، وغايته أنه يصححها لو وقعت فكان حقه أن يقول ، ومن صحح الصلاة فيه أو من لم يوجب إعادة الصلاة فيه هذا مع أن الكلام من أصله فاسد في غير موضعه ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزعه لكونه من زي الأعاجم من غير أن يكون حرم ذلك الوقت فهو أبعد من الإعادة فالحاصل أن صلاته عليه الصلاة والسلام في الثوب الحرير دال على جوازه ، ونزعه محتمل للتحريم ، ولغير التحريم فإن قلت قول المصنف في تبويبه النهي عن الصلاة في الحرير يقتضي ورود نهي خاص عن لبسه في حالة الصلاة ، وقد قررتم أن النهي عن لبسه غير مقيد حالة الصلاة قلت لا يلزم أن يكون فيه نهي خاص بل إذا [ ص: 220 ] ورد النهي من غير تقييد بحالة ، وقلنا إن العام في الأشخاص عام في الأحوال فلنا أن نستدل بالنهي في كل حالة لتناوله لها ، وإنما قيد المصنف بحالة الصلاة ليكون التبويب ملائما لما هو فيه من أمر الصلاة ، ولو أهمل هذا القيد لكان تبويبا أجنبيا عن الصلاة ، وكان حقه حينئذ إيراده في اللباس فإن قلت أي نهي في هذا الحديث قلت مجموع ما وقع من النزع العنيف ، وإظهار الكراهة ، وقوله لا ينبغي هذا للمتقين في معنى النهي في الدلالة على التحريم كما سنذكره فأقيم مقام النهي في إطلاق اسمه عليه ، والله أعلم .

(السادسة) قوله ثم نزعه نزعا عنيفا أي بشدة وقوة ومبادرة لذلك لا برفق وتأن على عادته في الأمور ، وذلك يدل على أنه طرأ تحريمه ، وأكد ذلك بقوله كالكاره له ، وقوله عليه الصلاة والسلام لا ينبغي هذا للمتقين أي للمؤمنين فإنهم هم الذين خافوا الله تعالى ، واتقوه بإيمانهم ، وطاعتهم له كذا قال أبو العباس القرطبي ، وقد يقال هذا من خطاب التهييج لأن فيه إشعارا بأنه لا يلبسه ، ويستخف بأمره إلا غير المتقين فيفر المرء من لبسه خشية أن يقال إنه غير متق لله تعالى ففيه تهييج المكلف على امتثال ذلك ، والأخذ به ، وحمل التقوى على تقوى الكفر خاصة بعيد بل الظاهر حمله على مطلق التقوى بالتقرير الذي ذكرته ، وهذا دال على تحريم لبس الحرير على الرجال ، وأما النساء فلا يدخلن في هذا لأن اللفظ غير متناول لهن على الراجح في الأصول فلا يقال في حقهن إلا المتقيات ، ودخولهن بتغليب لفظ الرجال عليهن مجاز صد عنه ورود الأحاديث الصريحة في تحريمه على الرجال ، وإباحته للنساء ، وأخذ بذلك جمهور العلماء من السلف والخلف ، وحكي الإجماع عليه لكن حكى القاضي عياض وغيره عن قوم إباحته للرجال والنساء ، وعن عبد الله بن الزبير تحريمه على الفريقين قال النووي ثم انعقد الإجماع على إباحته للنساء ، وتحريمه على الرجال .

(السابعة) قد يخرج بقوله للمتقين الصبيان فإنهم ليسوا أهل تكليف ، وغير مأمورين بالتقوى ، وقد قال أصحابنا يجوز إلباسهم الحرير والحلي في يوم العيد ، وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه (أصحها) عند الرافعي في المحرر والنووي جوازه و .

(الثاني) تحريمه و (الثالث) جوازه قبل سن [ ص: 221 ] التمييز ، وهو سبع سنين ، وتحريمه بعدها ، وصححه الرافعي في شرحه ، ونقله عن العراقيين ، وعن أحمد روايتان أصحهما التحريم مطلقا .

(الثامنة) الإشارة بقوله هذا هل هي إلى اللبس الذي وقع منه أو إلى الحرير ، فنقدر ما هو أعم من اللبس ، وهو الاستعمال لأن الذوات لا توصف بتحريم ، ولا تحليل ؟ محتمل ، ويترتب عليه أن الحديث هل يدل على تحريم الافتراش أم لا ؟ إن قلنا بالثاني دل على ذلك ، وإن قلنا بالأول فقد يقال إن الافتراش ليس لبسا ، وقد يقال هو لبس للمقاعد ، ونحوها ، ولبس كل شيء بحسبه ، وقد قال أنس رضي الله عنه : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، وإنما يلبس الحصير بالافتراش ، والجمهور على تحريم الافتراش ، وخالف في ذلك أبو حنيفة فجوزه ، وقال به من المالكية عبد الملك بن حبيب ، وقد قطع النزاع في ذلك حديث حذيفة نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير ، والديباج ، وأن نجلس عليه رواه البخاري في صحيحه ، ومن العجيب أن الرافعي من أصحابنا صحح أنه يحرم على النساء افتراش الحرير ، وإن كان يجوز لهن لبسه قطعا ، لكن الصحيح جوازه لهن أيضا ، وبه قطع العراقيون ، والمتولى ، وصححه النووي .

(التاسعة) التحريم إنما هو في الثوب الذي كله حرير فلو كان بعضه حريرا ، وبعضه كتانا أو صوفا فالصحيح الذي جزم به أكثر أصحابنا الشافعية أنه إن كان الحرير أكثر وزنا حرم ، وإن كان غيره أكثر وزنا لم يحرم على الأصح ، وكذا لو استويا لا تحريم على الأصح ، ولم يعتبر القفال الوزن ، وإنما اعتبر الظهور فقال إن ظهر الحرير حرم ، وإن قل وزنه ، وإن استتر لم يحرم ، وإن كثر وزنه .

(العاشرة) يستثنى من تحريم الحرير مواضع معروفة (منها) ما إذا احتاج إليه لحر أو برد ، ومنها ما إذا دعت إليه حاجة كجرب ، وقمل ، ومنها ما إذا فاجأته الحرب ، ولم يجد غيره ، وكذا يجوز أن يلبس منه ما هو وقاية للقتال كالديباج الصفيق الذي لا يقوم غيره مقامه ، وقال بعض أصحابنا يجوز لبسه في الحرب مطلقا لما فيه من حسن الهيئة ، وزينة الإسلام كتحلية السيف ، والصحيح تخصيصه بحالة الضرورة ، ولكل من هذه الصور دليل يخصه معروف في موضعه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية