صفحة جزء
وعن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم زاد مسلم في رواية لم يبلغوا الحنث ، وعلقها البخاري .


(الحديث الثاني) عن سعيد عن أبي هريرة بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد [ ص: 242 ] فيلج النار إلا تحلة القسم .

(فيه) فوائد :

(الأولى) اتفق عليه الشيخان ، والنسائي ، وابن ماجه من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة ، وأخرجه الشيخان ، والترمذي ، والنسائي من طريق مالك بلفظ فتمسه النار بدل فيلج النار أخرجه مسلم من رواية معمر ثلاثتهم عن الزهري عن سعيد ، وأخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة ، فقالت امرأة منهن أو اثنين يا رسول الله ؟ قال أو اثنين ، واتفق عليه الشيخان من رواية عبد الرحمن بن الأصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة ، وفيه ثلاثة لم يبلغوا الحنث ، وأحالا ببقيته على حديث أبي سعيد ، ولفظه ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة : واثنين فقال واثنين ، وقال البخاري أيضا .

وقال شريك عن ابن الأصبهاني حدثني أبو صالح عن أبي سعيد ، وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة لم يبلغوا الحنث ، وعزى والدي رحمه الله في النسخة الكبرى من هذه الأحكام هذه الزيادة ، وهي قوله لم يبلغوا الحنث لمسلم في رواية قال ، وعلقها البخاري فلم يطلع إلا على الرواية المعلقة ، وقد عرفت أنها مسندة في الصحيحين من رواية أبي حازم عن أبي هريرة ، ولما ذكر المزي في الأطراف رواية معمر عن الزهري من عند مسلم ذكر فيها لم يبلغوا الحنث ، وهو وهم فليست هذه الزيادة في صحيح مسلم من هذا الوجه ، والله أعلم .

(الثانية) الولد يطلق على الذكر والأنثى ، وعلى المفرد والجمع ، وفي الجمع أربع لغات المشهورة ، وهي فتح اللام والواو وفتح الواو وضمها وكسرها مع إسكان اللام في الثلاثة ، وقوله فيلج أي يدخل ، وهو منصوب بالفاء في جواب النفي ، والقسم بفتح القاف والسين اليمين ، وتحلة القسم بفتح التاء وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام ما ينحل به القسم ، وهو مصدر حلل اليمين أي [ ص: 243 ] كفرها ، ويقال في المصدر تحليل ، وتحل أيضا بغيرها ، وهو شاذ .

(الثالثة) فيه أن المسلم إذا مات له ثلاثة من الولد لم يدخل النار إلا تحلة القسم ، ومن ضرورة ذلك دخوله الجنة إذ لا منزلة بينهما ، وفي صحيح البخاري ، وغيره عن أنس بن مالك مرفوعا ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، وفي سنن ابن ماجه عن عتبة بن عبد مرفوعا ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل ، وهذه زيادة على مطلق دخول الجنة ، ويوافقه ما رواه النسائي عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه ابن له فقال أتحبه فقال أحبك الله كما أحبه فمات ففقده فسأل عنه فقال ما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك .

(الرابعة) تقدم أن في الصحيح من غير وجه أنه قيل " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واثنان فقال واثنان " ، وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة فقالت عائشة فمن كان له فرط من أمتك فقال ومن كان له فرط يا موفقة قالت فمن لم يكن له فرط ؟ قال أنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارق ، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة انتهى ، وعبد ربه هذا مختلف فيه ، ضعفه ابن معين ، والنسائي ، وقال أحمد ما به بأس ، ووثقه ابن حبان ، وروى الترمذي ، وابن ماجه عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قدم ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا قال أبو ذر قدمت اثنين قال ، واثنين فقال أبي بن كعب سيد القراء قدمت واحدا قال ، وواحد ، ولكن إنما الصبر عند الصدمة الأولى قال الترمذي حسن غريب ، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه

وروى ذكر الواحد من حديث جماعة من الصحابة أيضا ، وهو محمول عند العلماء على أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه ذلك عند سؤالهم عن الاثنين وعن الواحد إن صح ، ولا يمتنع نزول الوحي عليه في أسرع من طرفة عين كما في نزول قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين لما قام ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله إني رجل [ ص: 244 ] ضرير البصر .

فنزلت غير أولي الضرر هذا على أن العلماء يختلفون في مفهوم العدد هل هو حجة أم لا ، فمن لم يجعله حجة لا تحتاج إلى ذكر هذا الجواب ، ويقول ذكر هذا العدد لا ينافي حصول ذلك بأقل منه بل ، ولو جعلناه حجة فليس نصا قاطعا بل دلالته دلالة ضعيفة يقدم عليها غيرها عند معارضتها .

وقال أبو العباس القرطبي بعد ذكره نحو ما قلناه ، ويحتمل أن يقال أن ذلك بحسب شدة وجد الوالدة وقوة صبرها فقد لا يبعد أن يكون من فقدت واحدا أو اثنين أشد ممن فقدت ثلاثة أو مساوية لها فتلحق بها في درجتها قلت ظاهر الحديث حمل ذلك على كل فاقد اثنين ، وعلى كل فاقد واحد فالتقييد بشدة الوجد الذي يصيره كفاقد ثلاثة يحتاج إلى دليل .

وقال القاضي عياض يحتمل أنه عليه السلام قاله ابتداء لأتم الأشياء لأن ثلاثا أول الكثرة فأخبرهم بذلك لئلا يتكل من مات له ولد على ولده في شفاعته ، وسكت عما وراءه فلما سئل أعلم بما عنده في ذلك قال ، وفي قولها أو اثنان بعد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ذلك في الثلاثة ، وهي من أهل اللسان دليل على أن تعليق الحكم بعدد ما لا ينافيه من جهة دليل الخطاب عما عداه من العدد كان أقل أو أكثر إلا بنص انتهى .

(الخامسة) قال أبو العباس القرطبي إنما خص الولد بثلاثة لأن الثلاثة أول مراتب الكثرة فبعظم المصائب تكثر الأجور فأما إذا زاد على الثلاثة فقد يخفف أجر المصيبة بالزائد لأنها كأنها صارت عادة ، وديدنا كما قال المتنبي

أنكـــرت طارقـــة الحـــوادث مـــرة ثـــم اعــترفت بهــا فصــارت ديدنــا

وقال آخر

روعـــت بــالبين حــتى مــا أراع لــه     وبالمصـــائب فـــي أهلـــي وجـــيراني

ثم قال : ويحتمل أن يقال إنما لم يذكر ما بعد الثلاثة لأنه من باب الأحرى والأولى إذ من المعلوم أن من كثرت مصائبه كثر ثوابه فاكتفى بذلك عن ذكره قلت إذا جعلنا لمفهوم العدد دلالة فدلالته في هذه الصورة في منع النقصان لا في منع الزيادة فإن من مات له أربعة فبالضرورة قد مات له ثلاثة فلا معنى لهذا الكلام الذي ذكره القرطبي ، وإذا أخبر الصادق بأن من مات له ثلاثة لم يلج النار إلا تحلة القسم [ ص: 245 ] فمات لشخص ثلاثة فحصلت له هذه البشرى ثم مات له أربع انقطعت هذه البشرى بموت هذا الرابع ، وصار على خطر دخوله النار بعد تلك البشرى ، وهب أن حزنه بهذا الرابع خفيف لاعتياده المصائب فهل يزيد ذلك على كونه لم تحدث له هذه المصيبة أصلا ، وكيف السبيل إلى إحباط ثواب ما مضى من المصائب بهذه المصيبة الرابعة هذا ما لا يتخيله ذو فهم فإن فرض أن الأربعة ماتوا دفعة واحدة كموت نفس واحدة على خلاف ما أجرى الله تعالى العادة ترتبت البشرى بعدم دخول النار على موت ثلاثة ، ويثيب الله تعالى على موت الرابع بما يشاء ، وقد دخلت هذه الصورة في هذا الحديث لكونه صدق أنه مات له ثلاثة من الولد ، والله أعلم .

(السادسة) أطلق في هذه الرواية ذكر الولد ، وقيده في رواية أخرى في الصحيحين بقوله لم يبلغوا الحنث أي لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الحنث ، وهو الإثم ، ومقتضى حمل المطلق على المقيد اختصاص ذلك بالأولاد الصغار دون البالغين قال أبو العباس القرطبي ، وإنما خصهم بهذا الحد لأن الصغير حبه أشد ، والشفقة عليه أعظم قلت قد يعكس هذا المعنى ، ويقال التفجع على فقد الكبير أشد ، والمصيبة به أعظم ، ولا سيما إذا كان نجيبا يقوم عن أبيه بأموره ، ويساعده في معيشته ، وهذا مشاهد معلوم ، والمعنى الذي ينبغي أن يعلل به ذلك ما في حديث أنس إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، وهو في صحيح البخاري ، وغيره كما تقدم ، وهو في مسند أحمد ، وغيره من حديث عمرو بن عبسة ، وأم سليم ، وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث أبي أمامة ، وفي سنن النسائي من حديث أبي ذر ، وفي معجم الطبراني الكبير من حديث حبيبة بنت سهل ، وأم مبشر ، ومن لم يكتب عليه إثم فرحمته أعظم ، وشفاعته أبلغ .

(السابعة) فعلى هذا لو مات له ثلاثة أولاد بالغين معتوهين عرض لهم العته والجنون قبل البلوغ بحيث لم يجر عليهم تكليف ، ولم يكتب عليهم إثم هل يكونون كغير البالغين ؟ هذا يحتمل ، والأرجح إلحاقهم بهم ، وقد يدعى دخولهم في قوله عليه الصلاة والسلام لم يبلغوا الحنث ، وينبغي أن يبنى ذلك على المعنيين المتقدم ذكرهما فإن عللنا بما في الحديث كان حكم المجانين كذلك لأن الرحمة لهم واسعة كثيرة لعدم حصول الإثم منهم فصاروا في ذلك [ ص: 246 ] كالأطفال ، وإن عللنا بما ذكره القرطبي لم يطرد ذلك في المجانين البالغين لأن محبتهم تخفف أو تزول ، ويتمنى الأب موتهم لما بهم من العاهة والضرر فلا يحصل له بموتهم تفجع ، ولا مشقة ، والله أعلم .

(الثامنة) قد يقال إن سائر الأولاد في ذلك سواء ، وإنه لا فرق بين البالغ منهم ، وغير البالغ ، وذلك بأحد أوجه (أولها) أن نقول بقول من يرى أن مفهوم الصفة ليس بحجة فتعليق الحكم بالذين لم يبلغوا الحلم لا يقتضى أن البالغين ليسوا كذلك (ثانيها) أن نأخذ بقول من يأخذ بالمطلق ، ويرى المقيد فردا من الأفراد التي دل عليها المطلق (ثالثها) أن يقال أن هذا المفهوم هنا ليس حجة لكونه خرج مخرج الغالب فإن الغالب في موت الأولاد أن يكون ذلك في صغرهم ، ومن تأخر أجله حتى يبلغ فالغالب أن أباه يتقدمه في الوفاة ، وقد يتخلف ذلك ، والقاعدة أن ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له (رابعها) أن يدعي أن هذا المفهوم ليس حجة بتقرير آخر ، وهو أنه خرج جوابا لسؤال بأن يكون عليه الصلاة والسلام سئل عمن مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث أو ذكر ذلك لمن مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث فجاء بهذا القيد مطابقا لحاله لا لأن الحكم يختص بهذه الحالة ، والقاعدة أن ما خرج جوابا لسؤال لا مفهوم له (خامسها) قد يدعي أن هذا ليس من مفهوم المخالفة ، وإنما هو من مفهوم الموافقة ، وأنهم إذا بلغوا كان التفجع عليهم أكثر ، وكانت المصيبة بهم أشد فكانوا أولى بهذا الحكم من الصغار ، ويكون التقييد بالصغر إشعارا لعظم الثواب ، وإن خفت المصيبة بهم لكونهم لم يبلغوا مبلغ الرجال الذين يقومون بالأمور فما ظنك ببلوغهم ، وكمالهم فعليك بالنظر في الأمور التي ذكرتها ، وهل تقوى فيعمل بها أو تضعف فتطرح فلست على ثقة منها ، والعلم عند الله تعالى ، وفي معرفة الصحابة لابن منده عن شراحيل المنقري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من توفي له أولاد في سبيل الله تعالى دخل الجنة بفضل حسبتهم ، وهذا الحديث إنما هو في البالغين لأنهم الذين يقتلون في سبيل الله تعالى غالبا .

(التاسعة) ظاهره أنه لا فرق بين أن يكون شديد المحبة لأولاده أو خفيفها أو خاليا من محبتهم أو كارها لهم لأن الولد مظنة المحبة ، والشفقة فنيط الحكم به ، وإن تخلف في بعض الأفراد ، وقد يحب [ ص: 247 ] الشخص بعض أقاربه أو أصدقائه أكثر من محبة ولده ، ومع ذلك فلم يرد ترتيب هذا الأمر على موت القريب والصديق ، ولا على موت الأب ، والأم لكن في معجم الطبراني الأوسط بإسناد ضعيف عن سهل بن حنيف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن له فرط لم يدخل الجنة إلا تصريدا قال رجل يا رسول الله ما لكلنا فرط قال أو ليس من فرط أحدكم أن يفقد أخاه المسلم . وقوله تصريدا بالصاد المهملة أي قليلا ، وأصله السقي دون الري ، ومنه صرد له العطاء قلله .

(العاشرة) قد يقال إن أولاد الأولاد في ذلك كالأولاد سواء كانوا أولاد البنين أو أولاد البنات لصدق الاسم عليهم ، وقد يقال لا يلتحقون في ذلك بهم لأن إطلاق اسم الأولاد عليهم ليس حقيقة ، وقد يفرق بين أولاد البنين فيكونون كالأولاد ، وأولاد البنات فلا يكونون كالأولاد قال الشاعر :

بنونــــا بنــــو أبنائنــــا وبناتنــــا بنـــوهن أبنـــاء الرجـــال الأبـــاعد

وقد يقال ينزلون منزلتهم عند فقدهم لا مع وجودهم ، وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنه لو وقف على أولاده ولم يكن له إلا أولاد أولاد حمل اللفظ عليهم فإن كان له أولاد ، وأولاد أولاد ففي دخول أولاد الأولاد ثلاثة أوجه أصحها لا يدخلون ، والثاني يدخلون ، والثالث يدخل أولاد البنين دون أولاد البنات ، وقد ورد تقييد الأولاد بكونهم من صلبه ، وذلك يخرج أولاد الأولاد فإن صح ذلك فهو قاطع للنزاع فروى أبو يعلى الموصلي في مسنده ، والطبراني في معجمه الكبير عن عثمان بن أبي العاصي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد استجن بجنة حصينة من النار رجل سلف بين يديه ثلاثة من صلبه في الإسلام فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة القرشي وهو ضعيف ، وفي مسند أحمد ، ومعجم الطبراني الكبير عن عقبة بن عامر مرفوعا من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله عز وجل في سبيل الله تعالى وجبت له الجنة إسناد الطبراني لا بأس به ، وفي إسناده أحمد بن لهيعة .

(الحادية عشرة) قد عرفت أن في صحيح مسلم تقييد ذلك بالاحتساب ، وورد ذلك في عدة أحاديث قال في النهاية : والاحتساب في الأعمال الصالحات ، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله ، وبالتسليم والصبر أو باستعمال أنواع البر والقيام [ ص: 248 ] بها على الوجه المرسوم فيها طالبا للثواب المرجو منها والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه لأن له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به انتهى .

وفي معجم الطبراني عن جابر بن سمرة مرفوعا من دفن ثلاثة من الولد فصبر عليهم واحتسبهم وجبت له الجنة

وفي معجم الطبراني لابن قانع عن حوشب بن طخمة مرفوعا من مات له ولد فصبر واحتسب قيل له ادخل الجنة بفضل ما أخذنا منك فمن يحمل المطلق على المقيد يخص ذلك بالصابر دون الجازع ، وقد مشى على ذلك أبو العباس القرطبي .

وقد تقدم ذلك عنه في مطلق المصائب لكن تقدم في معجم الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا من مات له ولد ذكر أو أنثى سلم أو لم يسلم رضي أو لم يرض صبر أو لم يصبر لم يكن له ثواب إلا الجنة، وإسناده ضعيف كما تقدم .

وفي معجم الطبراني الكبير أيضا من رواية إبراهيم بن عبيد عن ابن عمر أن رجلا من الأنصار كان له ابن يروح إذا راح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل نبي الله عليه السلام عنه فقال أتحبه فقال يا نبي الله نعم فأحبك الله كما أحبه فقال إن الله تعالى أشد لي حبا منك له فلم يلبث أن مات ابنه ذاك فراح إلى نبي الله عليه السلام ، وقد أقبل عليه بثه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أجزعت ؟ قال نعم قال أو ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش ؟ قال بلى يا رسول الله إبراهيم بن عبيد أخرج له مسلم لكن قال عبد المؤمن الدمياطي الحافظ لا نعرف له سماعا عن ابن عمر قلت ، ولا يحتاج على طريقة مسلم إلى ثبوت معرفة السماع لكن الذهبي في الميزان قال إن إبراهيم هذا لا يعرف فاقتضى أنه الذي عنده غير الذي أخرج له مسلم .

وإنما ذكرنا هذا الحديث لكون هذا الرجل اعترف للنبي صلى الله عليه وسلم بالجزع ، وذلك ينافي الصبر لكن قد يقال ليس فيه الحكم له بشيء ، وإنما فيه البشرى لابنه المتوفى ، وقد يقال لا يختص ذلك بحالة الصبر لأن أكثر الأحاديث ليس فيها هذا التقييد ، وبعض الأحاديث المقيدة بالصبر ضعيفة .

وأما التقييد في رواية مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بقوله فتحتسبه فلعله إنما ذكر ذلك للنساء لقلة الصبر عندهن ، وكثرة الجزع [ ص: 249 ] فيهن مع إظهار التفجيع بفعل ما لا يجوز من كثير منهن فردعهن عن ذلك بهذا الكلام ليحصل انكفافهن عما يتعاطينه من الأمور المحرمة فكان فائدة هذا التقييد ارتداعهن عن ذلك لا تخصيص الحكم به .

وقد عرف في الأصول أن شرط العمل بالمفهوم أن لا يظهر له فائدة سوى تخصيص الحكم به .

(الثانية عشرة) قوله لمسلم يقتضي أن الكافر ليس كذلك ، وهو واضح فإن الكافر ليس من أهل الأجور لكن لو مات له الأولاد في حال الكفر ثم أسلم بعد ذلك هل ينفعه ما مضى من موتهم في زمن كفره أو لا بد أن يكون موتهم في حالة إسلامه ؟ قد يدل للأول قوله عليه الصلاة والسلام لحكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من خير لما قال له أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء ؟ لكن جاءت أحاديث فيها تقييد ذلك بكونه في الإسلام فالرجوع إليها أولى فتقدم في الفائدة العاشرة حديث عثمان بن أبي العاصي ، وفي مسند أحمد ، ومعجم الطبراني الكبير عن أبي ثعلبة الأشجعي قال قلت يا رسول الله مات لي ولدان في الإسلام فقال من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة ، وفي مسند أحمد أيضا عن امرأة يقال لها رجاء قالت : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءته امرأة بابن لها فقالت يا رسول الله ادع الله لي فيه بالبركة فإنه قد توفي لي ثلاثة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنذ أسلمت ؟ قالت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنة حصينة فقال لي رجل اسمعي يا رجاء ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي مسند أحمد ، وغيره عن عمرو بن عبسة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة برحمته إياهم ، وفي هذا الحديث زيادة على ما تقدم وهي أن تكون ولادتهم في الإسلام ، ومقتضاه أنهم لو ولدوا له قبل أن يسلم ، وماتوا بعد إسلامه لم يكن له هذا الثواب .

(الثالثة عشرة) هذا الحديث لا يتناول السقط لأنه ليس ولدا لكن ورد ذكر السقط في أحاديث ، وفي سنن ابن ماجه من رواية أسماء بنت عابس بن ربيعة عن أبيها عن علي عليه السلام مرفوعا إن السقط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار فيقال أيها السقط المراغم ربه أدخل أبويك الجنة فيجرهما بسرره حتى يدخلهما الجنة ، وأسماء هذه لا تعرف [ ص: 250 ] قاله صاحب الميزان ، وفي سنن ابن ماجه أيضا عن معاذ مرفوعا ، والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته ، وفيه يحيى بن عبيد الله لا يعرف قاله الذهبي أيضا ، وفي معجم الطبراني الأوسط عن سهل بن حنيف مرفوعا تزوجوا فإنى مكاثر بكم الأمم ، وإن السقط يظل محبنطئا بباب الجنة يقال له ادخل يقول حتى يدخل أبواي كذا ، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف ، وروى ابن حبان في الضعفاء نحوه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، وفيه فيقال ، وأنت ، وأبويك قال ابن حبان منكر لا أصل له من حديث بهز .

(الرابعة عشرة) اختلف العلماء في معنى قوله إلا تحلة القسم فقال الجمهور المراد قسم الله تعالى على ورود جميع الخلق النار فيردها بقدر ما يبر الله تعالى قسمه ثم ينجو ثم اختلف هؤلاء في هذا القسم فقال أبو عبيد ، والبخاري ، والجمهور هو في قوله تعالى وإن منكم إلا واردها والقسم مقدر أي ، والله إن منكم إلا واردها قال الخطابي : وقد جاء ذلك في حديث مرفوع رواه زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرس ليلة وراء عورة المسلمين تطوعا لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم قال الله سبحانه وتعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا قال ابن بطال ، وفي هذا ما يقطع بصحة قول أبي عبيد انتهى .

وقال الخطابي القسم في قوله تعالى فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا

وقال الحسن ، وقتادة حتما مقضيا قسما ، واجبا ، وحكى ابن مسعود فهذه ثلاثة أقوال في موضع القسم من هذه الآية ، وقال ابن قتيبة ليس المراد بذلك قسما حقيقيا ، ولكن هذا اللفظ يعبر به عن تقليل المدة فتقول العرب ما يقيم فلان عنه إلا تحلة القسم أي مدة يسيرة ، وما ينام العليل إلا كتحليل الألية شبهوا تلك المدة اليسيرة بمدة قول القائل إن شاء الله لأنه يحلل بها القسم فيقول القائل ، والله أعلم لا أكلم زيدا إن شاء الله فلا ينعقد يمينه فالمراد أنه إن دخل النار يكون مكثه فيها قليلا كمدة تحليل اليمين ثم ينجيه الله تعالى .

(الخامسة عشرة) فيه على قول الجمهور دلالة على العموم في قوله تعالى وإن منكم إلا واردها وأن الآية تتناول المسلمين والكفار [ ص: 251 ] وقال بعضهم الخطاب في قوله تعالى ، وإن منكم إلا واردها راجع إلى الكفار فقط ، ويكون فيه الانتقال من الغيبة إلى الحضور ، وهو رواية عن ابن عباس ، وهذا الحديث يرده ، وبقية الآية صريح في الرد عليه أيضا بقوله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا

(السادسة عشرة) اختلف العلماء في المراد بالورود المذكور في الآية على أقوال :

(أحدها) أن المرور على الصراط ، وهو جسر منصوب على جهنم حكى ابن مسعود ، وكعب الأحبار ، وهو رواية عن ابن عباس ، ويدل له ما رواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد على النار إلا عابر سبيل يعني الجواز على الصراط .

(الثاني) أنه الوقوف عندها حكاه النووي في شرح مسلم .

(الثالث) أنهم يدخلونها حقيقة ، ولكن تكون عليهم بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم الخليل عليه السلام حين أدخل نار النمرود حكي عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما .

(الرابع) أن المراد بورودها ما يصيبهم في الدنيا من الحمى لقوله عليه الصلاة والسلام إن الحمى من فيح جهنم حكاه ابن بطال عن مجاهد ، واستشهد بحديث أبي هريرة قال عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا معه مريضا كان يتوعك فقال أبشر فإن الله يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة .

(السابعة عشر) الجمهور على حمل الاستثناء في قوله إلا تحلة القسم على ظاهره ، وتأوله بعضهم قال القاضي عياض ، وقد يحتمل قوله إلا تحلة القسم أي لا تمسه قليلا ، ولا مثل تحلة القسم كما قيل في قوله إلا الفرقدان أي ، ولا الفرقدان انتهى .

والبيت الذي أشار إليه هو :

وكــــــل أخ مفارقــــــه أخــــــوه لعمــــــر أبيـــــك إلا الفرقـــــدان

، وهذا المعنى لإلا ، وهو كونها عاطفة بمنزله الواو في التشريك في اللفظ ، والمعنى ذكره الأخفش ، والفراء ، وأبو عبيدة وجعلوا منه قوله تعالى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم وقوله تعالى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم أي ، ولا الذين ظلموا ، ولا من ظلم ، وتأولهما الجمهور على الاستثناء المنقطع [ ص: 252 ] وهذا المعنى إن صح فهو مرجوح فالحمل على المعنى الراجح المعروف متعين ، والله أعلم .

(الثامنة عشرة) استدل بتعليله عليه الصلاة والسلام دخول الآباء الجنة برحمة الأولاد ، وشفاعتهم في آبائهم على أن أولاد المسلمين في الجنة ، وهو قول جمهور العلماء ، وشذت الجبرية فجعلوهم تحت المشيئة ، وهذه السنة ترد عليهم ، وأجمع على ذلك من يعتد به ، وعليه يدل قوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم الآية ، ويستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته إياهم ، وهم غير مرحومين .

وأما حديث عائشة رضي الله عنها توفي صبي من الأنصار فقلت له طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ، ولم يدركه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم .

والجواب عنه من وجهين :

(أحدهما) لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع على ذلك كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله إني لأراه مؤمنا فقال أو مسلما الحديث .

(الجواب الثاني) أنه عليه الصلاة والسلام لعله لم يكن حينئذ اطلع على أنهم في الجنة ثم أعلم بعد ذلك ، ومحل الخلاف في غير أولاد الأنبياء قال المازري : أما أولاد الأنبياء صلوات الله ، وسلامه عليهم فالإجماع متحقق على أنهم في الجنة .

(التاسعة عشرة) استدل أبو عبيد على أن من حلف على فعل شيء أنه تبر يمينه بفعل القليل منه ، وبه قال الجمهور ، وحكاه القاضي عياض ، وقال وهو خلاف مذهب مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية