صفحة جزء
باب ليس خوف العبد من ذنبه كراهية للقاء الله تعالى .

عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فأحرقوه ، ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، قال فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، والبر فجمع ما فيه ، ثم قال لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم ، قال فغفر له ولأحمد لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد .


(باب ليس خوف العبد من ذنبه كراهية للقاء الله تعالى)

عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فأحرقوه ، ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، قال فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه والبر فجمع ما فيه ، ثم قال لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك [ ص: 266 ] يا رب وأنت أعلم قال فغفر له (فيه) فوائد : (الأولى) أخرجه الشيخان من هذا الوجه عن ابن أبي الزناد عن الأعرج وفي رواية مسلم لم يعمل حسنة قط وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه من رواية الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بمعناه وأخرجه أحمد في مسنده من رواية أبي رافع عن أبي هريرة بمثل حديث ابن مسعود ، وفي حديث ابن مسعود لم يعمل من الخير شيئا قط إلا التوحيد وفي صحيح البخاري من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو أن هذا الرجل كان نباشا وذكر ابن عبد البر أن أكثر رواة الموطإ رفعوا هذا الحديث ووقفه القعنبي ومصعب الزبيري على أبي هريرة قلت والمراد وقف لفظه وأما حكمه فهو الرفع ؛ لأنه لا يقال مثله من قبل الرأي فهو مرفوع على كل حال .

(الثانية) قوله قال رجل لم يعمل خيرا قط ظاهره أنه لم يكن موحدا ؛ لأن التوحيد أعظم الخير لكن إخباره بأنه فعل هذا من خشية الله يدل على توحيده وكيف يخشى الله من لا يعرفه بل يدل على علمه لقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقد رفعت تلك الرواية التي نقلتها من مسند أحمد الإشكال في ذلك بقوله فيها لم يعمل من الخير شيئا قط إلا التوحيد قال ابن عبد البر : وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى والأصول تعضدها والنظر يوجهها ؛ لأنه محال أن يغفر للذين يموتون وهم كفار بلا خلاف بين أهل القبلة وهذا سائغ في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض .

(الثالثة) قوله إذا مات فأحرقوه أتى به بلفظ الغيبة ولم يحكه باللفظ الذي قاله لهم وهو إذا مت فاحرقوني وهذا سائغ في لغة العرب وهو نظير قولهم لعبد الله ما أكرمه ولو حكى القول لقيل قلت لعبد الله ما أكرمك والأمران جائزان مستعملان .

(الرابعة) قوله ، ثم أذروا بالذال المعجمة ويجوز في همزة الوصل والقطع يقال ذرته الريح وأذرته تذروه وتذريه إذا أطارته ومنه تذرية الطعام كذا

[ ص: 267 ] ذكر في المشارق والنهاية ذريت وأذريت بمعنى وقال في الصحاح ذروته طيرته وأذهبته وذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا أي سفته ومنه قولهم ذرى الناس الحنطة ، ثم قال وأذريت الشيء إذا ألقيته كإلقائك لحب للزرع ؛ وطعنه فأذراه عن ظهر دابته أي ألقاه انتهى .

وذكر في المحكم نحوه وهذا يقتضي الفرق بين الثلاثي والرباعي وأن ما يلقى في غير محل معين يستعمل فيه الثلاثي كما في هذا الحديث وما يلقى في محل معين يستعمل فيه الرباعي .

(الخامسة) قوله فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه ظاهره نفي قدرة الله على إحيائه وإعادته وفي القول به إشكال فإن ذلك كفر والشاك في قدرة الله تعالى كافر مع كون الحديث يدل على إسلامه من وجهين أحدهما إخباره بأنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى والثاني إخباره عليه الصلاة والسلام بأن الله غفر له والكافر لا يغفر له مع ما انضم إلى ذلك من الرواية التي في مسند أحمد الصريحة في أنه كان موحدا فاختلف العلماء في تأويله فقالت طائفة لا يصح حمله على ظاهره لما ذكرناه فيكون له تأويلان أحدهما أن معناه لأن قدر الله على العذاب أي قضاه يقال منه قدر بالتخفيف وقدر بالتشديد بمعنى واحد والثاني أن قدر بمعنى ضيق فقوله لئن قدر الله علي أي لئن ضيق ومنه قوله تعالى فقدر عليه رزقه وهو أحد الأقوال في قوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه وقال آخرون اللفظ على ظاهره وذكروا له تأويلات :

(أحدهما) أن هذا الرجل قال هذا الكلام وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف والجزع الشديد بحيث ذهب تيقظه وتدبره ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته أنت عبدي وأنا ربك فلم يكفر بذلك للدهش والغلبة والسهو ، وقد ورد في رواية في غير الصحيحين فلعلي أضل الله أي أغيب عنه وهذا يدل على أن قوله لئن قدر الله على ظاهره كما ذكرنا .

(الثاني) أن هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالها يسمونه مزج الشك باليقين [ ص: 268 ] وسماه بعضهم تجاهل العارف ومنه قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فصورته شك والمراد به اليقين

(الثالث) أن غاية ما فيه أن هذا رجل جهل صفة من صفات الله تعالى ، وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة فمن كفره بذلك محمد بن جرير الطبري وقاله الشيخ أبو الحسن الأشعري أولا وقال آخرون لا يكفر بجهل الصفة ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف جحدها وإليه رجع أبو الحسن الأشعري وعليه استقر قوله ، قال ؛ لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادا نقطع بصوابه ويراه دينا وشرعا ، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق ؛ قال هؤلاء ولو سئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قليلا وحكاه ابن عبد البر عن المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين واستدل عليه بأن عمر وعمران بن حصين وجماعة من الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدر ومعلوم أنهم إنما يسألوه عن ذلك وهم جاهلون به وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين انتهى .

(الرابع) أنه كان في زمن فترة حين ينفع مجرد التوحيد ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا

(الخامس) أنه يجوز أنه كان متمسكا بشريعة فيها جواز العفو عن الكافر وإن كان ذلك غير جائز في شرعنا فإنه من مجوزات العقول عند أهل السنة ، وإنما منعناه في شرعنا بالشرع وهو قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به وغير ذلك من الأدلة والله أعلم .

(السادسة) إن قلت ظاهر حال هذا الرجل أنه وقع في كبيرة وهو اليأس من رحمة الله وكان هذا خاتمة أمره فكيف كانت هذه الكبيرة سبب المغفرة له ؟ قلت إن صرفنا اللفظ عن ظاهره يحمل قدر على قضى أو ضيق فليس فيه اليأس من رحمة الله فإنه يرجو الرحمة بتقدير أن لا يقضي عليه بالعذاب أو لا يضيق عليه على اختلاف القولين وإن أخذناه على ظاهره فالجواب عن هذا أن شدة الخوف اصطلمته وأذهلته حتى خرج عن حد التكليف فنفعه خوفه ونجاه مع التوحيد ولم يضره يأسه ؛ لأنه حصل له حالة انقطع عنه فيها التكليف وبتقدير أنه لم يصل إلى حالة أخرجته عن حيز المكلفين فالخوف الحاصل له كفر عن سيئاته [ ص: 269 ] من رحمة الله بل كفر عنه سيئاته التي كان يرتكبها طول عمره ، وقد يشتمل الفعل الواحد على طاعة من وجه ومعصية من وجه فربما غلبت الطاعة فكفرت المعصية وربما غلبت المعصية فأحبطت ثواب الطاعة ، وفي هذا المحل غلبت الطاعة فكفرت المعصية وعن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال فيمن سمع بآلة محرمة فأحدثت له أحوالا صالحة يحصل له اسم السماع المحرم وثواب الأعمال الصالحة فإن غلب الثواب ربح وإن غلب الإثم خسر وإن استويا تكافأ هذا معناه وروى الإمام أحمد في مسنده وغيره بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل فعلت كذا ، وكذا قال والذي لا إله إلا هو يا رسول الله ما فعلت فقال بلى قد فعلت ، ولكن غفر لك بالإخلاص وروي هذا المعنى أيضا من حديث ابن عباس وأنس وابن الزبير رضي الله عنهم .

(السابعة) إن قلت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وهذا قد ظن بربه تعذيبه وعدم المغفرة له فكيف غفر له ؟ قلت قد اختلفوا في معنى هذا الحديث فقيل المراد به الرجاء وتأميل العفو وقيل معناه بالغفران له إذا استغفر والقبول له إذا تاب والإجابة إذا دعا والكفارية إذا طلب الكفارية فإن قلنا بالثاني فالجمع بينهما واضح ؛ لأن هذا قد ندم على ما فرط منه ولولا ندمه لما أمر أن يفعل به ذلك فكان تائبا فقبلت توبته وغفر له وإن قلنا بالأول فقد حكى القاضي عياض والنووي في شرح مسلم أنه قيل إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه وعقوبة لها لعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله تعالى فهو حينئذ قد رجا العفو وأمله فكان الله عند ظنه به فعفا عنه وهذا بعيد من قوله إن قدر الله علي إن لم يؤوله بما تقدم والله أعلم .

(الثامنة) استدل به المصنف رحمه الله على أن خوف العبد من ذنبه ليس كراهية للقاء الله تعالى وهو استدلال واضح ؛ لأن الخائف من ذنبه يطلب أن يكون مصيره إلى الدار الآخرة على وجه مرضي يقربه إلى الله تعالى فكره حالة نفسه التي هو عليها ولم يكره لقاء الله مطلقا بل أحب لقاءه على غير تلك الحالة

(التاسعة) في هذا الحديث فضيلة خوف الله تعالى وغلبتها على العبد وأنها من مقامات الإيمان وأركان الإسلام وبها انتفع هذا المسرف وحصلت له المغفرة وفيه [ ص: 270 ] دليل على أنه لا ضرر في غلبة الخوف وإن كانت بقرب الوفاة وإن كان العلماء رجحوا في تلك الحالة تغليب جانب الرجاء على جانب الخوف

(العاشرة) فيه أن الأعمال بالنيات والمقاصد فإن الله تعالى لم ينظر إلى هذا العمل بل إلى القصد فقال له لم فعلت هذا ولما كان الحامل عليه الخشية كان سبب المغفرة ولو حمل عليه سبب آخر فاسد لكان الأمر بخلاف ذلك فيما يظهر والله تعالى أعلم .

(الحادية عشرة) وفيه بيان سعة رحمة الله تعالى ومغفرته وأن المسرف على نفسه لا ييأس من ذلك ، وقد قال الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وقيل إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله تعالى

التالي السابق


الخدمات العلمية