صفحة جزء
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته فوضعه على ركبته وألبسه قميصه ، ونفث عليه من ريقه زاد الشيخان فالله أعلم ، زاد البخاري وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان قال أبو هريرة وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال له ابنه عبد الله يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك .

قال سفيان فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع كذا في أصل سماعنا أبو هريرة ، وفي أكثر النسخ أبو هارون وللنسائي في حديث جابر " وكان العباس بالمدينة فطلبت الأنصار ثوبا يكسونه فلم يجدوا قميصا يصلح عليه إلا قميص عبد الله بن أبي فكسوه إياه وللشيخين من حديث ابن عمر أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الحديث .


(الحديث الثاني) عن جابر أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته فوضعه على ركبته وألبسه قميصه ونفث عليه من ريقه (فيه) فوائد : (الأولى) أخرجه الشيخان والنسائي من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر وزادوا في روايتهم فالله أعلم وفي رواية للنسائي وكان العباس [ ص: 278 ] بالمدينة فطلبت الأنصار ثوبا يلبسونه فلم يجدوا قميصا يصلح عليه إلا قميص عبد الله بن أبي فكسوه إياه وزاد البخاري في رواية له في الجنائز وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان وقال أبو هريرة وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال له ابن عبد الله يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك قال سفيان فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع قال والدي رحمه الله في النسخة الكبرى من هذه الأحكام كذا في أصل سماعنا أبو هريرة ، وفي أكثر النسخ أبو هارون ولفظ رواية البخاري في الجهاد لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه قال ابن عيينة كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه وأخرجه مسلم من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر قال فذكر بمثل حديث سفيان .

(الثانية) استدل به الحنفية على استحباب التكفين في قميص والمخالفون لهم يقولون هذه واقعة لم ندر كيف اتفق الحال فيها يحتمل أن يكون هذا القميص أحد الأكفان الثلاثة ويحتمل أنه زائد عليها فإن كان أحدها فنحن لا نقول بتحريمه ولا كراهته وغايته أن الأفضل خلافه فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا جوازه ولم يكن فعله عليه الصلاة والسلام مفضولا بل هو فاضل ؛ لأنه بين به الجواز ولأمر يختص بهذه القضية وهو شيئان (أحدهما) مكافأته إياه عن كسوته للعباس رضي الله عنه قميصا [ ص: 279 ] فجازاه من جنس فعله (وثانيهما) إكرامه عليه الصلاة والسلام ولده بذلك فإنه لم يفعل ذلك إلا بسؤاله واقتراحه طلب منه أن يلبسه القميص الذي يلي جلده كما تقدم ذلك من صحيح البخاري ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مكافأة له وإكراما لأبيه وبيانا للجواز وكان الأفضل ما اختاره الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وهو ثلاثة أثواب خالية عن قميص وإن كان هذا القميص زائدا على الأكفان الثلاثة فالحنابلة القائلون بكراهته في هذه الصورة يجيبون بمثل ما أجبنا فيما إذا كان أحدها والشافعية لا يرون كراهيته بل يقتصرون فيه على الإباحة والمالكية يستحبونه في هذه الحالة وهي ما إذا كان زائدا على الثلاثة والله أعلم .

(الثالثة) بوب عليه البخاري في صحيحه في باب الكفن بالقميص الذي تكف أو لا يكف وقال المهلب صوابه بإثبات الياء ومعناه طويلا كان ذلك القميص أو قصيرا فإنه يجوز الكفن فيه وكان عبد الله بن أبي طويلا ولذلك كسا العباس قميصه وكان العباس بائن الطول ا هـ وكان البخاري رحمه الله فهم من كونهم لم يجدوا للعباس رضي الله عنه ثوبا يصلح له لطوله إلا ثوب عبد الله بن أبي أن هذا الثوب الذي كساه النبي صلى الله عليه وسلم لابن أبي لم يكن كافيا لكونه عليه الصلاة والسلام كان معتدل الخلقة ليس بالطويل البائن فاستدل به على جواز التكفين بالقميص الناقص عن بدن الميت الذي هو غير كاف له في طوله فلو لم يكن كفن إلا في هذا القميص لكان دليلا على أنه لا يجب أن يكون الكفن مستوعبا لبدن الميت كما هو المرجح عندنا لكن ظاهر أنه كفن في غيره لكونه عليه الصلاة والسلام أتاه بعد ما أدخل حفرته وما كان ليدخل حفرته إلا بعد تكفينه والله أعلم .

(الرابعة) قوله أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته ليس فيه أنه كان قد دفن فنبش القبر وأخرجه بل كان هذا قبل إهالة التراب عليه وهذا اللفظ محتمل لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قبره ولأن يكون عبد الله بن أبي أخرج من القبر والواقع هو الاحتمال الثاني ففي رواية للبخاري فأخرجه وفي رواية له فأمر به فأخرج ، وفي رواية مسلم [ ص: 280 ] فأخرجه من قبره وأما قوله في رواية للبخاري بعد ما دفن فليس متعينا لإهالة الترب عليه بل هو صادق بمجرد وضعه في اللحد فهو بمعنى الرواية الأخرى وبوب البخاري على هذا الحديث باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة وهذا التبويب أيضا لا يقتضي النبش وتكلم ابن بطال في شرح البخاري في هذا الباب على النبش ، وقد عرفت أنه ليس بلازم منه ويحتمل أنه إنما تكلم على ذلك الحديث جابر الذي أورده البخاري معه في نبشه إياه بعد ستة أشهر والله تعالى أعلم .

(الخامسة) مقتضى هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما ألبسه قميصه بعد إدخاله حفرته ، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الحديث وظاهره أنه أعطاه قميصه أول وفاته قبل دفنه وإدخاله في حفرته ويحتمل الجمع بينهما بصرف حديث ابن عمر عن ظاهره إما بأن يكون ولده إنما طلب القميص بعد تكفينه وإدخاله حفرته أو طلبه من أول موته لكن تأخر إعطاؤه له حتى أدخل قبره والفاء التي في قوله فأعطاه قميصه لا تنافي هذا ؛ لأن زمن تجهيزه زمن يسير لا ينافي التعقيب ويحتمل أن يكون قوله في حديث جابر وألبسه قميصه معطوفا على قوله فوضعه على ركبته فالمفعول بعد وضعه في حفرته إنما هو وضعه على الركبة ونفث الريق عليه وأما إلباسه القميص فكان متقدما على ذلك وهو حكاية عما فعله معه النبي صلى الله عليه وسلم من غير ترتيب بعض هذه الأمور على بعض في الزمان ، وفي هذا بعد والله أعلم .

(السادسة) هذه الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي إكرام لولده وقضاء لحقه وتطييب لقلبه فإنه كان صحيح الإسلام مع اليد التي تقدمت له في كسوة العباس وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس مكافأة ورجا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك النفع وترك العذاب إن كان مسلما فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتحقق حينئذ كفره حتى نزل عليه بعد ذلك قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون وكانت هذه القصة قبل نزول [ ص: 281 ] هذه الآية والله أعلم .

(السابعة) النفث بالنون والفاء والثاء شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل قاله في الصحاح والمحكم والنهاية زاد في النهاية ؛ لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق وقال في الصحاح أوله البزق ، ثم التفل ، ثم النفث ، ثم النفخ ، ثم قال في المحكم وقيل هو التفل بعينه وحكى في المشارق كون التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق عن أبي عبيد ، ثم قال وقيل هما سواء يكون معهما ريق وقيل بعكس الأول .

(الثامنة) قال ابن بطال : فيه حجة على من قال إن ريق ابن آدم ونخامته نجس وهو قول يروى عن سلمان الفارسي والعلماء كلهم على خلافه والسنن وردت برده فمعاذ الله أن يكون ريق النبي صلى الله عليه وسلم نجسا ونفثه على وجه التبرك به وهو عليه الصلاة والسلام علمنا النظافة والطهارة وبه طهرنا الله من الأدناس ا هـ .

(التاسعة) في قوله في رواية الشيخين فالله أعلم إشارة إلى الشك في إسلام عبد الله بن أبي فإن هذه الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم معه لا تفعل إلا مع مسلم وكان يظهر منه ما يقتضي خلاف ذلك لكن جوابه أنه عليه الصلاة والسلام اعتمد ما كان يظهره من الإسلام وأعرض عما كان يتعاطاه مما يقتضى خلاف ذلك حتى نزل بعد ذلك القرآن في قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية كما تقدم والله أعلم .

(العاشرة) فيه لبسه عليه الصلاة والسلام للقميص وإن كان الأغلب من عادته وعادة سائر العرب لبس الإزار والرداء

(الحديث الثالث) وعن سالم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون [ ص: 282 ] أمام الجنازة رواه أصحاب السنن (فيه) فوائد :

(الأولى) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة به ورواه الترمذي والنسائي من رواية همام بن يحيى عن منصور وبكر الكوفي وزياد بن سعد وسفيان وهو ابن عيينة أربعتهم عن الزهري به وزاد في رواية النسائي عثمان ، ثم قال بكر وحده لم يذكر عثمان ، ثم قال النسائي هذا خطأ والصواب مرسل ، وإنما أتي هذا عندي ؛ لأن هذا الحديث رواه الزهري عن سالم عن أبيه أنه كان يمشي أمام الجنازة وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وقال ابن المبارك : الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثة مالك ومعمر وابن عيينة فإذا اتفق اثنان على شيء وخالفهما الآخر تركنا قول الآخر . ا هـ ورواه مالك في الموطإ عن الزهري مرسلا ، ثم رواه الترمذي أيضا من رواية معمر عن الزهري قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وقال الزهري وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة ، ثم قال الترمذي هكذا رواه ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد عن الزهري عن سالم عن أبيه نحو حديث ابن عيينة وروى معمر ويونس بن يزيد ومالك وغيرهم من الحفاظ عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح ، ثم روي بإسناده عن عبد الله بن المبارك قال : حديث الزهري في هذا مرسلا أصح من حديث ابن عيينة قال ابن المبارك وأرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة ، وفي معجم الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه قال إنما هو عن الزهري مرسلا وحديث ابن عيينة كأنه وهم رواه ابن حبان في صحيحه من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري مسندا وفيه عثمان وفي رواية لابن حبان فقيل لسفيان وعثمان ؟ قال لا أحفظه قيل له كان ابن جريج يقوله كما تقوله ويزيد فيه عثمان قال سفيان لم أسمعه ذكر عثمان وفي رواية للبيهقي في سننه عن علي بن المديني فقمت إليه يعني ابن عيينة فقلت له يا أبا محمد إن معمرا وابن جريج [ ص: 283 ] يخالفانك في هذا يعني أنهما يرسلان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال استقر الزهري حدثنيه سمعته من فيه يعيده ويبديه عن سالم عن أبيه فقلت له يا أبا محمد إن معمرا وابن جريج يقولان فيه وعثمان قال فصدقهما وقال لعله قد قاله هو ولم أكتبه إني كنت أميل إذ ذاك إلى الشيعة قال البيهقي وقد اختلف على ابن جريج ومعمر في وصل هذا الحديث ، فروي عن كل واحد منهما موصولا وروي مرسلا وقد قيل عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري ثم ذكر البيهقي رواية همام التي تقدم ذكرها وقال تفرد به همام وهو ثقة واختلف فيه على عقيل ويونس بن يزيد فقيل عن كل واحد منهما عن الزهري موصولا وقيل مرسلا قال : ومن وصله واستقر على وصله ولم يختلف عليه فيه وهو سفيان بن عيينة حجة ثقة ا هـ وقال البيهقي في المعرفة أرسله جماعة عن الزهري ومنهم من قال عن الزهري عن سالم ثم أرسله فذكروا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قول سالم ومنهم من وصله بذكر أبيه وقال ابن حزم لم يخف علينا قول جمهور أصحاب الحديث أن خبر همام هذا خطأ ولكن لا يلتفت إلى دعوى الخطإ في رواية الثقات إلا ببيان لا يشك فيه وقال ابن عبد البر في الاستذكار : لم يختلف أصحاب مالك في إرسال هذا الحديث عنه عن ابن شهاب ولم يختلف أصحاب ابن عيينة عليه في توصيله مسندا ، وتابعه ابن أخي الزهري وغيره واختلف فيه سائر أصحاب ابن شهاب انتهى وكأنه أراد بأصحاب مالك رواة الموطإ فقد ذكر في التمهيد أنه وصله عن مالك قوم منهم يحيى بن صالح الوحاظي وعبد الله بن عون الخراز وحاتم بن سالم القزاز ، ثم رواه من طريقهم كذلك ، ثم قال : الصحيح فيه عن مالك : الإرسال ، ولكنه قد وصله جماعة ثقات من أصحاب ابن شهاب منهم ابن عيينة ومعمر ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أخي ابن شهاب وزياد بن سعيد وعباس بن الحسن الجزري على اختلاف عن بعضهم ، ثم بسط ذلك ، ثم قال والذين يروونه عنه مرسلا أكثر وأحفظ انتهى وكذا ذكر الدارقطني والبيهقي أن جماعة رووه عن مالك مسندا لكن قال الدارقطني : إنهم وهموا فيه على مالك والصحيح عنه الإرسال ، ثم قال : والصحيح عن الزهري قول من قال عن سالم عن [ ص: 284 ] أبيه انتهى . وقال عبد الحق في الأحكام : هكذا رواه ابن عيينة ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وزياد عن سعد ومنصور وابن جريج وغيرهم عن الزهري عن سالم عن أبيه رواه مالك عن الزهري مرسلا ، وكذا رواه يونس ومعمر عن الزهري مرسلا وهو عندهم أصح وقال النووي في الخلاصة : الذي وصله سفيان وهو ثقة حافظ إمام واختار البيهقي ترجيح الموصول لما ذكرناه انتهى .

ثم روى الترمذي من رواية محمد بن بكر عن يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة وأبو بكر وعمر وعثمان ، ثم قال الترمذي سألت محمدا عن هذا الحديث فقال أخطأ محمد بن بكر ، وإنما يروي هذا يونس عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة قال الزهري وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة قال محمد وهذا أصح انتهى .

وقال البيهقي في الخلافيات محمد بن بكر البرساني ثقة ممن إذا انفرد بشيء قبل منه كيف ، وقد تابعه على ذلك بكر بن مضر وأبو زرعة وهبة الله بن راشد وذكره ابن عبد البر في التمهيد بزيادة وخلفها ، وقال : وقوله وخلفها لا يصح في هذا الحديث وهي لفظة منكرة فيه لا يقولها أحد من رواته .

(الثانية) فيه أن الأفضل لمشيع الجنازة أن يكون قدامها وفيه مذاهب :

(أحدها) هذا وإليه ذهب أبو بكر وعمر وعثمان كما قد عرفته وهو مذهب الشافعي وقول في مذهب مالك وروى ابن أبي شيبة في مصنفه المشي أمام الجنازة عن ابن عمر وأبي هريرة والحسن والحسين بن علي وأبي قتادة وأبي أسيد وعبد الله بن الزبير وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلقمة والأسود وسالم والقاسم بن محمد ومحمد بن سيرين وعبيد بن عمير .

ورواه الأثرم عن طلحة والزبير وابن عباس وأبي هريرة والسائب بن يزيد وغيرهم وحكاه ابن المنذر أيضا عن شريح القاضي والزهري ومالك والشافعي وأحمد انتهى .

وحكاه الخطابي عن أكثر أهل العلم قال وكان أكثر الصحابة يفعلونه وحكاه ابن عبد البر عن الليث بن سعد والفقهاء المدنيين السبعة وأكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وذكر ابن عبد البر عن سويد بن علقمة قال إن الملائكة لتمشي أمام الجنازة .

وروى البيهقي عن زياد بن قيس الأشعري [ ص: 285 ] قال : " أتيت المدينة فرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار يمشون أمام الجنازة " .

(القول الثاني) أن الأفضل أن يكون خلفها وهو مذهب الحنفية وقول في مذهب مالك وحكاه الترمذي عن سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه .

وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي والأوزاعي وفي مصنف ابن أبي شيبة عن سويد بن علقمة قال : الملائكة يمشون خلف الجنازة ، وعن أبي الدرداء أن من تمام أجر الجنازة أن يشيعها مع أهلها والمشي خلفها .

وعن أبي معمر أنه قال في جنازة أبي ميسرة : امشوا خلف جنازة أبي ميسرة فإنه كان مشاء خلف الجنائز وعن عبد الرحمن بن أبي أبزى قال : كنت في جنازة وأبو بكر وعمر أمامها وعلي يمشي خلفها فجئت إلى علي فقلت له المشي خلفها أفضل أو أمامها ؛ فإني أراك تمشي خلفها وهذان يمشيان أمامها ؟ فقال علي لقد علمنا أن المشي خلفها أفضل من أمامها مثل صلاة الجماعة على الفذ ، ولكنهما ميسران يحبان أن ييسرا على الناس وحكى الأثرم عن أحمد أنه تكلم في إسناده

وعن ابن مسعود الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس معها من تقدمها وهو في سنن أبي داود والترمذي مرفوعا واتفقوا على ضعفه كما قال النووي وعن مسروق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أمة قربان وإن قربان هذه الأمة موتاها فاجعلوا موتاكم بين أيديكم .

وعن أبي أمامة لأن لا أخرج معها أحب إلي أن أمشي أمامها وعن علقمة أنه قيل له أتكره المشي خلف الجنازة قال لا إنما يكره السير أمامها وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يسيران أمام الجنازة واستدل لهذا القول بحديث البراء أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع فذكر منها اتباع الجنائز .

وبقوله عليه الصلاة والسلام من تبع جنازة أجيب عنهما بأنه لا يلزم من اتباعها أن يكون خلفها وقال البيهقي الآثار في المشي أمامها أكثر وأصح وقال النووي : أحاديث المشي خلفها كلها ضعيفة .

(القول الثالث) أن المشي أمامها وخلفها كلاهما سواء حكاه ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي عن سفيان الثوري وقال ابن المنذر قالت طائفة إنما أنتم متبعون فكونوا بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها هذا قول مالك بن أنس ومعاوية بن قرة وسعيد بن جبير انتهى .

وروى ابن أبي شيبة عن أنس في [ ص: 286 ] الجنازة أنتم مشيعون لها تمشون أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها وعن أبي العالية خلفها قريب وأمامها قريب وعن يسارها قريب وعن يمينها قريب وعن سليمان التيمي قال رأيت أبا قلابة غير مرة يجعل الجنازة عن يمينه .

القول الرابع : أن الأفضل للماشي أن يكون أمامها ، وللراكب أن يكون خلفها وهو المشهور من مذهب مالك وكذا قال الحنابلة ويستحب المشي وأن يكون أمامها فإن ركب فالسنة أن يكون خلفها وكذا حكاه ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال كانوا يكرهون أن يسير الراكب أمامها وحكاه ابن المنذر عن علقمة .

وأخرج الخطابي الراكب عن موضع الخلاف وقال فأما الراكب فلا أعلمهم اختلفوا في أن يكون خلف الجنازة وتبعه على ذلك الرافعي في شرح مسند الشافعي فحكى الاتفاق على أن الراكب يكون خلفها وهو مردود فلا خلاف عندنا أنه يكون قدامها مطلقا وقد ذهب إلى هذا طائفة من السلف فروى ابن أبي شيبة في مصنفه الركوب أمام الجنازة عن ابن عمر وشريح القاضي والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح .

وقد ورد في حديث ما يقتضي قولا خامسا وهو أن الراكب يتعين كونه خلف الجنازة والماشي مخير رواه أصحاب السنن وابن حبان عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها الحديث لفظ النسائي .

وحكى ابن عبد البر هذا القول عن محمد بن جرير الطبري وبه قال ابن حزم وقال أحب ذلك إلينا خلفها .

(الثالثة) فيه أن الأفضل لمشيع الجنازة أن يكون ماشيا وهو كذلك من غير خلاف أعلمه إلا أن بعضهم رخص في ذلك وبعضهم شدد فيه وكره الركوب وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد الله بن رباح قال : " للماشي في الجنازة قيراطان وللراكب قيراط " وروى ابن أبي شيبة أيضا الركوب في الجنازة عن ابن عمر وأبي بكرة وابن عباس وشريح وأبي وائل والحسن البصري وعطاء ، وروى ابن أبي شيبة أيضا عن زيد بن أرقم " لو يعلم رجال يركبون في الجنازة ما لرجال يمشون ما ركبوا " .

وعن ثوبان " أنه رأى رجلا راكبا في جنازة فأخذ بلجام دابته فجعل يكبحها فقال تركب وعباد الله يمشون " .

وعن ابن عباس قال " الراكب في الجنازة كالجالس في بيته " قال ابن المنذر [ ص: 287 ] وروينا ذلك عن الشعبي والأثرم المتقدم عن ثوبان روي عنه مرفوعا رواه الترمذي وابن ماجه عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى ناسا ركبانا فقال ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب رواه أبو داود بلفظ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له ؛ فقال إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت وقال البيهقي إن المحفوظ وقفه وحكي عن البخاري أن الموقوف أصح وبوب الترمذي على الرخصة في ذلك وروى حديث جابر بن سمرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ابن الدحداح وهو على فرس له يسعى ونحن حوله نتوقص به لكنه رواه عقبة بلفظ إن النبي اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس فتبين بالرواية الثانية أن الركوب إنما كان في الرجوع ورواه مسلم في صحيحه بمعنى اللفظ الأخير ولفظه أتي النبي صلى الله عليه وسلم بفرس معرورى فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح ونحن نمشي حوله وأعلم أن أكثر أصحابنا اقتصروا على استحباب المشي ولم يتعرضوا لكراهة الركوب ، وكذا فعل المالكية وذكر النووي في شرح مسلم كراهة الركوب ، وكذا ذكر الحنابلة ويستثنى من كراهة الركوب حالة العذر .

(الرابعة) في هذا اللفظ ما يشعر بكون الماشي أمام الجنازة يكون بقربها إذا لم يكن قريبا منها لم يصح نسبته إليها ولا صدق في العرف كونه أمامها وبهذا صرح أصحابنا وغيرهم فقالوا الأفضل أن يكون قريبا منها بحيث لو التفت رآها ولا يتقدمها إلى المقبرة قالوا فلو تقدم لم يكره وهو بالخيار إن شاء قام منتظرا لها وإن شاء قعد ، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يمشون أمام الجنازة حتى إذا تباعدوا عنها قاموا ينتظرونها .

(الخامسة) ذكر بعضهم أن الحكمة في ذكر فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد ذكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم بذلك أن الحكم مستمر غير منسوخ ولا يراد بذلك تقوية فعله عليه الصلاة والسلام بفعلهما فإن الحجة في فعله ولا حجة في فعل أحد بعده والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية