صفحة جزء
وعن عروة عن عائشة قالت فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهرا وإنك قد دخلت عن تسع وعشرين أعدهن ؟ فقال إن الشهر تسع وعشرين رواه مسلم .


[ ص: 118 ] الحديث الرابع .

وعن عروة عن عائشة قالت فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك قد دخلت عن تسع وعشرين أعدهن فقال إن الشهر تسع وعشرين كذا رواه مسلم . (فيه) فوائد :

(الأولى) أخرجه مسلم في الصوم عن عبد بن حميد وفي الطلاق عن إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر ثلاثتهم عن عبد الرزاق وفي رواية في الصوم في أول الحديث عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة فذكرت هذا الحديث ، وذكره في الطلاق عقب حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس في سؤاله عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الحديث الطويل وفي آخره وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل ثم ذكر هذا الحديث وأخرجه الترمذي أيضا في التفسير من طريق عبد الرزاق بنحوه ، وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر

واتفق الشيخان على هذه القصة من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون غدا أو راح فقيل له إنك حلفت أن لا تدخل شهرا فقال إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما لفظ البخاري ، وأخرجها البخاري أيضا من حديث أنس قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة [ ص: 119 ] ثم نزل فقالوا يا رسول الله آليت شهرا فقال إن الشهر يكون تسعا وعشرين ورويت القصة أيضا من حديث عمر في الصحيحين وجابر في صحيح مسلم وغيره وغيرهما .

(الثانية) استشكل قولها فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل علي لأن مقتضاه أنه دخل في اليوم التاسع والعشرين فلم يكن ثم شهر لا على الكمال ولا على النقصان ، وجوابه أن المراد فلما مضت تسع وعشرون ليلة بأيامها فإن العرب تؤرخ بالليالي وتكون الأيام تابعة لها ويدل لذلك قوله في حديث أم سلمة عند البخاري وغيره فلما مضى تسعة وعشرون يوما (فإن قلت) ففي صحيح مسلم من حديث جابر في هذه القصة فخرج إلينا صباح تسع وعشرين وهو صريح في أنه كان دخوله في التاسع والعشرين قلت قد أوله النووي في شرح مسلم على أن معناه صباح الليلة التي بعد تسعة وعشرين يوما وهي صبيحة ثلاثين ودعاه إلى ذلك الجمع بين الروايات فإن قوله فلما مضى تسعة وعشرون يوما يقطع النزاع في ذلك ، وكذا قال القاضي عياض بعد ذكره اختلاف الروايات في ذلك : معناه كله بعد تمام تسعة وعشرين يوما ، يدل عليه رواية فلما مضى تسع وعشرون يوما .

(الثالثة) صرح في هذا الحديث بأن حلفه عليه الصلاة والسلام كان على الامتناع من الدخول على أزواجه شهرا فتبين أن قوله في حديث أم سلمة وأنس وغيرهما آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه أريد به ذلك ولم يرد به الحلف على الامتناع من الوطء والروايات يفسر بعضها بعضا فإن الإيلاء في اللغة مطلق الحلف لكنه مستعمل في عرف الفقهاء في حلف مخصوص وهو الحلف على الامتناع من وطء زوجته مطلقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر فلا يستعمل الإيلاء عندهم فيما عدا ذلك والإيلاء على الوجه المذكور حرام لما فيه من إيذاء الزوجة وليس هو المذكور في الحديث ، ولو حلف على الامتناع من وطء الزوجة أربعة أشهر فما دونها لم يكن حراما وتعديته في حديث أم سلمة وغيرها بمن يدل على ذلك ؛ لأنه راعى المعنى وهو الامتناع من الدخول وهو يتعدى بمن .

(الرابعة) فيه جواز هجران المسلم فوق ثلاثة أيام إذا تعلقت بذلك مصلحة دينية من صلاح حال المهجور وغير ذلك ومن ذلك ما إذا كان [ ص: 120 ] المهجور مبتدعا أو مجاهرا بالظلم والفسوق فلا يحرم مهاجرته .

وأما قوله عليه الصلاة والسلام لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام فمحله ما إذا كان الهجران لحظوظ النفس وتعنتات أهل الدنيا . قال النووي في الروضة قال أصحابنا وغيرهم هذا في الهجران لغير عذر شرعي فإن كان عذر بأن كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور فلا يحرم وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه صلى الله عليه وسلم الصحابة عن كلامهم ، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا انتهى .

(الخامسة) فيه منقبة لعائشة رضي الله عنها لبدائه عليه الصلاة والسلام بالدخول عليها قبل بقية زوجاته .

(السادسة) هذا الحديث محمول عند الفقهاء على أنه عليه الصلاة والسلام أقسم على ترك الدخول على أزواجه شهرا بعينه بالهلال وجاءه ذلك الشهر ناقصا فلو تم ذلك الشهر ولم ير الهلال فيه ليلة الثلاثين لمكث ثلاثين يوما أما لو أقسم على ترك الدخول عليهن شهرا مطلقا لم ينطبق الحلف فيه على أول الهلال لم يبر إلا بشهر تام بالعدد ، هذا هو الذي نعرفه لأصحابنا وغيرهم فإن كان أحد من الفقهاء يقول بالاكتفاء بتسعة وعشرين يوما ولو كان ذلك في أثناء شهر فهذا الحديث حجة له (فإن قلت) إذا كان المحلوف عليه شهرا بعينه بالهلال ، وقد رئي لتمام تسعة وعشرين يوما فما وجه السؤال عنه ، وقد كمل الشهر بالرؤية ؟ (قلت) يحتمل أوجها .

(أحدها) أن السائل لم يعلم بأنه شهر يعينه بالهلال بل ظن أنه شهر عددي فبنى على ذلك سؤاله .

(ثانيها) لعل السائل لم يعلم قبل ذلك الحكم الشرعي وهو أن الشهر المعتبر بعينه بالهلال لا يعتبر فيه العدد ، وإنما يعتبر فيه الهلال حتى بينه له الشارع في هذا الحديث .

(ثالثها) يحتمل أن السائل عرف أن المحلوف عليه شهر بعينه بالهلال وعرف أن المعتبر فيه الهلال دون العدد ولكنهم لم يكونوا رأوا الهلال لمانع من غيم أو غيره أو لم ينتصبوا لرؤيته لكونه ليس رمضان ولا شعبان وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب انقضاء الشهر بوحي فأخبر به ويدل لذلك قوله في حديث ابن عباس عند النسائي أتاني جبريل عليه السلام فقال : الشهر تسع وعشرون .

(السابعة) قوله (إن الشهر تسع وعشرين) كذا في أصلنا وعشرين وكأنه خبر [ ص: 121 ] كان المقدرة تقديره يكون تسعا وعشرين ويدل لهذا قوله في حديث أم سلمة وأنس وغيرهما إن الشهر يكون تسعا وعشرين وحذف كان واسمها وإبقاء عملها إنما هو كثير بعد إن أو لو لكنه قد ورد بعد غيرهما كما في قول الشاعر :

مـــن لـــد شـــولا فـــإلى ائتلافهــا

أي من لدن كانت هي شولا فإلى أن تلاها ولدها ، وعلى هذا فقوله تسع منصوب واستغنى عن كتابته بالألف بجعل فتحتين عليه كما هو اصطلاح لبعض الناس ولا جائز أن يكون مرفوعا .

(الثامنة) إن قلت ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه فقد يكون ثلاثين (قلت) عنه أجوبة .

(أحدها) أن المعنى كما تقدم أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما وحينئذ فلا إشكال في ذلك .

(ثانيها) أن الألف واللام للعهد والمراد أن هذا الشهر الذي أقسم على الامتناع من الدخول فيه تسعة وعشرون يوما .

(ثالثها) أنه بنى ذلك على الغالب الأكثر ؛ لأن مجيء الشهر تسع وعشرون في زمنه عليه الصلاة والسلام كان أكثر من ثلاثين وفي سنن أبي داود والترمذي عن ابن مسعود قال ما صمت مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين ، وكذا في سنن ابن ماجه عن أبي هريرة .

(رابعها) قال القاضي أبو بكر بن العربي معناه حصره من أحد طرفيه وهو النقصان أي إنه يكون تسعا وعشرين وهو أقله ، وقد يكون ثلاثين وهو أكثره فلا تأخذوا أنتم بصوم الأكثر أنفسكم احتياطا ولا تقصروا على الأقل تخفيفا ولكن اربطوا عبادتكم برؤيته واجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية