صفحة جزء
باب ما يحرم على المحرم ويباح له

عن سالم عن أبيه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب وقال سفيان مرة ما يترك المحرم من الثياب ؟ فقال لا يلبس القميص ولا البرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبا مسه الورس ولا الزعفران والخفين إلا لمن لا يجد نعلين فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لم يقل الشيخان ما يترك .

وعن نافع عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويلات ولا البرنس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران ولا ورس زاد البخاري : ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين


[ ص: 40 ] (باب ما يحرم على المحرم ويباح له)

(الحديث الأول)

عن سالم عن أبيه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب وقال سفيان مرة ما يترك المحرم من الثياب ؟ فقال لا يلبس القميص ولا البرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبا مسه الورس ولا الزعفران ولا الخفين إلا لمن لا يجد نعلين فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لم يقل الشيخان ما يترك .

وعن نافع عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد [ ص: 41 ] لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعها أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران ولا ورس (فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه من الطريق الأولى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من طريق سفيان بن عيينة ولفظ أبي داود : ما يترك المحرم من الثياب ولفظ الباقين ما يلبس وأبو داود قد رواه عن أحمد ومسدد كلاهما عن ابن عيينة وقد بين أحمد في مسنده أن الاختلاف في ذلك من سفيان بن عيينة نفسه كما في الأصل.

وأخرجه من الطريق الثانية الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك وأخرج ابن ماجه أيضا منه قوله من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر .

وأخرجه البخاري والنسائي من طريق أيوب السختياني وأخرجه البخاري من طريق ابن أبي ذئب وجويرية بن أسماء وأخرجه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان وأخرجه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر وعبد الله بن عون وعمر بن نافع كلهم عن نافع وأخرجه أيضا البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق الليث بن سعد عن نافع وفيه ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين وقال البخاري تابعه موسى بن عقبة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وأبو إسحاق في النقاب والقفازين وقال عبيد الله ولا ورس وكان يقول لا تنتقب المحرمة ولا تلبس [ ص: 42 ] القفازين وقال مالك عن نافع عن ابن عمر لا تنتقب المحرمة وتابعه ليث بن أبي سليم انتهى.

وقال أبو داود وقد روى هذا الحديث حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عن موسى بن عقبة عن نافع على ما قال الليث ورواه موسى بن طارق عن موسى بن عقبة موقوفا على ابن عمر وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب موقوفا وإبراهيم بن سعيد المدني عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين قال أبو داود إبراهيم بن سعيد المدني شيخ من أهل المدينة ليس له كثير حديث ثم روى أبو داود رواية إبراهيم هذه ثم روى أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق قال: فإن نافعا مولى عبد الله بن عمر ، حدثني عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويل أو قميصا وفي بعض نسخه أو خفا ذهبا .

ورواه الحاكم في مستدركه بلفظ أو خف وقال صحيح على شرط مسلم وقال الترمذي بعد إخراج رواية الليث بتلك الزيادة هذا حديث حسن صحيح وأخرج النسائي رواية موسى بن عقبة المرفوعة من رواية عبد الله بن المبارك عنه وقال ابن المنذر اختلفوا في ثبوت ذلك فجعله بعضهم من كلام ابن عمر وقال ابن عبد البر رفعه صحيح عن ابن عمر وحكى أبو عبد الله الحاكم عن شيخه الحافظ أبي علي النيسابوري أن قوله لا تنتقب إلى آخره من قول ابن عمر أدرج في الحديث وقال الخطابي عللوه بأن ذكر القفازين إنما هو قول ابن عمر ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلق الشافعي القول في ذلك وقال الشيخ تقي الدين في الإلمام هذا يحتاج إلى دليل عليه فإنه خلاف الظاهر وكأن الحافظ أبا علي نظر إلى الاختلاف في رفعه ووقفه فإن كان ليس إلا ذلك فالمسألة معلومة الحكم عند أهل الأصول وإن كان حصل فيه الطريق التي جرت العادة بأن يستدل بها على فصل كلام الراوي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث فهي طريق معتدة بين المحدثين وهو استدلال [ ص: 43 ] بالقرينة وإلا فيمكن أن يروي الراوي ما يفتي به وبالعكس.

قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي قد نقل البخاري في صحيحه ما يدل على الإدراج فحكى قوله المتقدم وقال عبيد الله ولا ورس وكان يقول لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين قال وكذا قال البيهقي في السنن أن عبيد الله بن عمر ساق الحديث إلى قوله ولا ورس ثم قال وكان يقول لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين ثم قال الشيخ تقي الدين لكن في هذا الحديث قرينة مخالفة لهذا دالة على عكسه وهي وجهان (أحدهما) أنه ورد إفراد النهي عن القفازين فذكر رواية إبراهيم بن سعيد المتقدمة.

(الثاني) أنه جاء النهي عن القفازين مبدوءا به مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يمنع الإدراج فذكر رواية أبي إسحاق المتقدمة قال والدي رحمه الله الحديث الأول ضعيف لجهالة إبراهيم بن سعيد المدني وقد ذكره ابن عدي في الكامل وقال ليس بمعروف ثم روى له هذا الحديث وقال لا يتابع على رفعه رواه جماعة عن نافع من قول ابن عمر وقال الذهبي منكر الحديث غير معروف له حديث واحد في الإحرام أخرجه أبو داود وسكت عنه فهو مقارب الحال قال والدي قد تعقب أبو داود الحديث بما يدل على عدم شهرة رواية كما تقدم لكن رواه البيهقي من رواية فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة عن نافع ومن رواية جويرية عن نافع وإسنادهما صحيح ففيه ترجيح لرواية إبراهيم بن سعيد ورد لقول ابن عدي إنه تفرد برفعه.

(قلت) وقال المنذري رواه حفص بن ميسرة الصنعاني وفضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة فرفعاه قال وكل من رفعه ثقة ثبت محتج به ثم قال والدي وأما الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ تقي الدين فإن ابن إسحاق لا شك أنه دون عبيد الله بن عمر في الحفظ والإتقان وقد فصل الموقوف من المرفوع وقوله إن هذا يمنع الإدراج مخالف لقوله في الاقتراح أنه يضعفه لا يمنعه وقد ذكر الخطيب في المدرج حديث أبي هريرة مرفوعا أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار فجعل قوله (أسبغوا) مدرجا ولم يمنعه من ذلك كونه متقدما على المرفوع فلعل بعض من ظنه مرفوعا قدمه والتقديم والتأخير في الحديث سائغ بناء على جواز الرواية بالمعنى ا هـ.

[ ص: 44 ] كلام والدي رحمه الله وفي رواية للبيهقي من طريق أيوب السختياني أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يلبس المحرم وفي رواية له من طريق الثوري عن أيوب ولا القباء وقال هو صحيح محفوظ من حديث سفيان الثوري عن أيوب ثم رواه من طريق عبيد الله بن عمر وفيه والأقبية ورواه الدارقطني أيضا وقال والدي إسناده صحيح.

(الثانية) قوله لا يلبس الأشهر فيه الرفع على الخبر ويجوز فيه الجزم على النهي وهذا الجواب مطابق للسؤال على إحدى الروايتين التي نقلها الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة وهي قول السائل ما يترك المحرم وكذا هي في سنن أبي داود كما تقدم وبمعناها قوله في رواية للبيهقي ما لا يلبس المحرم وأما على الرواية المشهورة فإن المسئول عنه ما يلبسه المحرم فأجيب بذكر ما لا يلبسه والحكمة فيه أن ما يجتنبه المحرم ويمتنع عليه لبسه محصور فذكره أولى ويبقى ما عداه على الإباحة بخلاف ما يباح له لبسه فإنه كثير غير محصور فذكره تطويل وفيه تنبيه على أن السائل لم يحسن السؤال وأنه كان الأليق السؤال عما يتركه فعدل عن مطابقته إلى ما هو أولى ، وبعض علماء المعاني يسمي هذا أسلوب الحكيم وقريب منه قوله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين الآية فالسؤال عن جنس المنفق فعدل عنه في الجواب إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم وكان اعتناء السائل بالسؤال عنه أولى ومثله قوله تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج قال النووي في شرح مسلم قال العلماء هذا من بديع الكلام وجزله فإنه عليه الصلاة والسلام سئل عما يلبسه المحرم فقال لا تلبسوا كذا وكذا فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما عداها فكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر فأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله لا يلبس كذا وكذا يعني ويلبس ما سواه ا هـ ، وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة فيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان لو بتغيير أو زيادة ولا يشترط المطابقة.

(الثالثة) القميص معروف وجمعه قمص بضم القاف والميم ويجوز تخفيف ميمه وهو قياس مطرد في الجمع الذي على وزن فعل وجاء في الرواية الأولى بالإفراد وفي الثانية بالجمع وكذا [ ص: 45 ] بقية المذكورات معه وكأنه مأخوذ من الجلدة التي هي غلاف القلب اسمها القميص.

(الرابعة) البرنس بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وضم النون كل ثوب رأسه منه ملتزق به من ذراعه أو جبة أو غيرهما ذكره صاحبا المشارق والنهاية قال في النهاية وهو من البرس بكسر الباء القطن والنون زائدة وقيل إنه غير عربي ا هـ ، وحكي في المحكم في البرس ضم الباء أيضا وقال إنه القطن أو شبيه به قال في الصحاح البرنس قلنسوة طويلة وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام.

(الخامسة) نبه عليه الصلاة والسلام بالجمع بين البرنس والعمامة على تحريم كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره حتى العصابة فإنها حرام فإن احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيره شدها ولزمته الفدية قاله النووي وابن دقيق العيد وقال المحب الطبري ذكرهما معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد في ستره ولا بالنادر وسبقه إلى ذلك الخطابي وذكر من النادر المكتل يحمله على رأسه وقال إن فيه الفدية والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا تحريم في حمل المكتل ولا فدية فيه وبه قال أبو حنيفة وأحمد وقال المالكية لا بأس أن يحمل على رأسه ما لا بد له منه كخرجه وجرابه ولا يحمل ذلك لغيره تطوعا ولا بإجارة فإن فعل افتدى ولا يحمل لنفسه تجارة قال أشهب إلا أن يكون عيشه ذلك.

(السادسة) فيه تحريم لبس هذه الأمور المذكورة وما في معناها على المحرم وهو مجمع عليه فنبه بالقميص على كل مخيط أو محيط معمول على قدر البدن وبالسراويل على ما هو معمول على قدر عضو منه وبالعمامة على الساتر للرأس وإن لم يكن مخيطا وبالبرنس على الساتر له وإن كان لبسه نادرا ومن ذلك يفهم تحريم ستر الرأس مطلقا وكذلك يحرم ستر بعضه إذا كان قدرا يقصد ستره لغرض بخلاف الخيط ونحوه ولا يضر الانغماس في الماء والستر بكفه وكذا بيد غيره في الأصح ولو طلا رأسه بحناء ونحوه فإن كان رقيقا لا يستر فلا فدية وإلا وجبت على المذهب وحكى النووي في الروضة عن الروياني وغيره أنه تجب الفدية بتغطية البياض الذي وراء الأذن ونبه عليه الصلاة والسلام بالخف على كل ساتر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرها ويقدح في [ ص: 46 ] دعوى الإجماع ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عطاء بن أبي رباح أنه رخص للمحرم في لبس الخف في الدلجة قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي ولا يعرف ذلك لغير عطاء إلا أن الطحاوي روى في بيان المشكل أن عمر رأى على عبد الرحمن بن عوف خفين وهو محرم فقال وخف أيضا وأنت محرم ؟ فقال فعلته مع من هو خير منك قال والدي فلعل هذا مستند عطاء ويحتمل عدم وجدان عبد الرحمن للنعلين.

(السابعة) تقدم أن في رواية البيهقي زيادة ذكر القباء وعده مما ينهى عنه المحرم وظاهرها أنه لا فرق بين أن يدخل يديه في كميه أم لا وبه قال مالك والشافعي وأحمد وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري والليث بن سعد وزفر ، ورخص أبو حنيفة ذلك بما إذا أدخل يديه في كميه فإن اقتصر على لبسه على كتفيه لم يحرم وبه قال إبراهيم النخعي وحكاه ابن عبد البر عن أبي ثور وبه قال الخرقي من الحنابلة .

(الثامنة) جميع ما تقدم إنما هو في حق الرجال أما المرأة فلها لبس المخيط وستر الرأس ولفظ الحديث غير متناول لها فإن لفظ المحرم موضوع للرجل وإنما يقال للمرأة محرمة وهذا على ما تقرر في الأصول أن لفظ الذكور لا يتناول الإناث خلافا للحنابلة ولم يخالف الحنابلة في هذا الفرع لورود ما يدل على اختصاص هذا الحكم بالرجال وهو قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين وهو في صحيح البخاري وغيره كما تقدم وهو دال على أن جميع ما تقدم إنما هو للرجال قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن للمرأة المحرمة لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف انتهى فدل النهي عن الانتقاب على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه ويمسه دون ما إذا كان متجافيا عنه وهذا قول الأئمة الأربعة وبه قال الجمهور وقال ابن المنذر لا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيه يعني النقاب ثم قال وكانت أسماء بنت أبي بكر تغطي وجهها وهي محرمة وروينا عن عائشة أنها قالت المحرمة تغطي وجهها إن شاءت وقال ابن عبد البر وعلى كراهة النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين من الصحابة [ ص: 47 ] والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار أجمعين إلا شيء روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة.

وعن عائشة أنها قالت تغطي المرأة وجهها إن شاءت وروي عنها أنها لا تفعل وعليه الناس انتهى.

وأما لبس المرأة القفازين فمختلف فيه ذهب مالك وأحمد إلى منعه وهو أصح القولين عن الشافعي وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعطاء ونافع وإبراهيم النخعي وقال ابن المنذر اتقاؤه أحب إلي للحديث الذي جاء فيه وقال ابن عبد البر الصواب عندي نهي المرأة عنه ووجوب الفدية عليها به لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم وذهب آخرون إلى جوازه وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وعائشة وعطاء والثوري ومحمد بن الحسن وحكاه النووي وغيره عن أبي حنيفة قال ابن عبد البر ويشبه أن يكون مذهب ابن عمر لأنه كان يقول إحرام المرأة في وجهها انتهى وهو رواية المزني عن الشافعي وصححه من أصحابنا الغزالي والبغوي قال الرافعي لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول وحكى الخطابي عن أكثر أهل العلم أنه لا فدية عليها إذا لبست القفازين وهو قول عند المالكية وأما ستر المرأة يديها بغير مخيط كما لو أختضبت فألقت على يدها خرقة فوق الخضاب أو ألقتها بلا خضاب فالمشهور من مذهب الشافعي رحمه الله جوازه وبعضهم أجرى فيه القولين في القفازين وقال الشيخ أبو حامد إن لم تشد الخرقة جاز وإلا فالقولان ، فعلى المشهور يكون عليه الصلاة والسلام نبه بالقفازين على ما في معناهما من المخيط أو المحيط وعلى الثاني يكون نبه بهما على مطلق الساتر والله أعلم.

(التاسعة) ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين استواء الحرة والأمة في ذلك وهذا هو المشهور من نصوص الشافعي وأصحابه .

(العاشرة) ظاهر قوله ولا تنتقب المرأة اختصاصها بذلك وأن الرجل ليس كذلك وهو مقتضى ما ذكره أول الحديث فيما يتركه المحرم فإنه لم يذكر منه ساتر الوجه ومذهب الشافعي وأحمد والجمهور أنه يجوز للمحرم ستر وجهه ولا فدية عليه وفيه آثار عن الصحابة وذهب أبو حنيفة ومالك إلى منعه كالرأس وهو رواية عن أحمد وقالوا إذا حرم على المرأة ستر وجهها مع احتياجها إلى ذلك [ ص: 48 ] فالرجل أولى بتحريمه وتمسكوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته ولا تخمروا رأسه ولا وجهه وأجاب الجمهور عنه بأن النهي عن تغطية وجهه إنما كان لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه ولا بد من هذا التأويل لأن المتمسكين بهذا الحديث وهم الحنفية والمالكية لا يقولون ببقاء أثر الإحرام بعد الموت لا في الرأس ولا في الوجه والجمهور يقولون لا إحرام في الوجه في حق الرجل فحينئذ لم يقبل بظاهره أحد منهم ولا بد من تأويله على أن المالكية قالوا إنه لا فدية في تغطية المحرم وجهه إلا في رواية ضعيفة جزم بها ابن المنذر عن مالك وبنى بعضهم هذا الخلاف على أن التغطية حرام أو مكروهة.

وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن أنه إن غطى ثلثه أو ربعه فعليه دم وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة وفي سنن سعيد بن منصور عن عطاء بن أبي رباح يغطي المحرم وجهه ما دون الحاجبين وفي رواية له ما دون عينيه وهذه تفرقة غريبة قال والدي رحمه الله ويحتمل أنه أراد الاحتياط لكشف الرأس ولكن هذا أمر زائد على الاحتياط لذلك وهو حاصل بدونه انتهى .

(الحادية عشرة) وأما لبس القفازين فإن تحريمه ثابت في حق الرجل أيضا لكونه في معنى المنصوص على تحريمه عليه وهو السراويل فإن كلا منهما يحيط بجزء من البدن بل التحريم في حق الرجل متفق عليه وفي حق المرأة مختلف فيه كما تقدم .

(الثانية عشرة) المراد باللبس المنهي عنه اللبس المعتاد فلو ارتدى القميص ونحوه لم يمنع منه فإنه لا يعد لابسا له في العرف فإن قلت ففي صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما وجد القر فقال ألق علي ثوبا يا نافع فألقيت عليه برنسا فقال تلقي على هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسه المحرم ؟ (قلت) قال ابن عبد البر هذا من ورعه وتوقفه كره أن يلقي عليه البرنس وسائر أهل العلم إنما يكرهون الدخول فيه ولكنه رحمه الله استعمل العموم في اللباس لأن التغطية والامتهان قد يسمى لباسا ألم تسمع إلى قول أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس انتهى وهو يقتضي أن ابن عمر إنما فعل ذلك احتياطا لا لاعتقاده الوجوب وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي ويحتمل أن البرنس [ ص: 49 ] كان مفرجا كالقباء بحيث لو قام عد لابسا له فإن بعض البرانس كذلك وقد حكى الرافعي عن إمام الحرمين فيما لو ألقى على نفسه قباء أو فرجية وهو مضطجع أنه إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسه ، فعليه الفدية ، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا ، انتهى .

(الثالثة عشرة) الورس بفتح الواو وإسكان الراء وبالسين المهملة قال في الصحاح نبت أصفر يكون باليمن يتخذ منه الغمرة للوجه وقال في النهاية نبت أصفر يصبغ به ، زاد المحب الطبري لون صبغه بين الحمرة والصفرة ورائحته طيبة وقال في المحكم شيء أصفر مثل الملآء يخرج على الرمث بين آخر الصيف وأول الشتاء ، وقال أبو حنيفة ليس ببري يزرع سنة فيجلس عشر سنين أي يقيم في الأرض لا يتعطل قال ونباته مثل نبات السمسم فإذا جف عند إدراكه تفتقت خرائطه فينتفض منه الورس انتهى.

ولا تنافي بين هذه العبارات لكن في بعضها زيادة على بعض فلذلك حكيتها ، والرمث من مراعي الإبل والمعروف أن الورس طيب وقال الرافعي هو فيما يقال أشهر طيب في بلاد اليمن وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أنه ليس بطيب فقال والورس وإن لم يكن طيبا فله رائحة طيبة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين تجنب الطيب المحض وما يشبه الطيب في ملائمة الشم واستحسانه انتهى.

(الرابعة عشرة) فيه تحريم التطيب على المحرم لأنه إذا حرم الورس والزعفران فما فوقهما كالمسك ونحوه أولى بالتحريم وإذا حرم لبس الثوب الذي مسه أحدهما فالتضمخ بأحدهما أولى بالتحريم وهذا مجمع عليه قال أصحابنا والمراد بالطيب ما يقصد به الطيب فأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البراري كالشيح والقيصوم ونحوهما فليس بحرام لأنه لا يقصد للطيب .

(الخامسة عشرة) ظاهره تحريم لبس ما مسه الورس أو الزعفران أو ما في معناهما ولو خفيت رائحته بعد ذلك لمرور الزمان أو غيره وقد قال أصحابنا إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته حرم استعماله وإن بقي اللون لم يحرم على أصح الوجهين وقال الحنفية متى كان غسيلا لا ينفض لم يحرم لأن [ ص: 50 ] المنع للطيب لا للون وفي الموطإ أن مالكا سئل عن ثوب مسه طيب ثم ذهب ريح الطيب منه هل يحرم فيه ؟ فقال نعم لا بأس بذلك ما لم يكن فيه طيب زعفران أو ورس وفي رواية ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس قال مالك وإنما يكره لبس المسبغات لأن المسبغات تنفض وفي الجواهر لابن شاس لو بطلت رائحة الطيب لم يبح استعماله وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد .

وقال ابن عبد البر روى يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تلبسوا ثوبا مسه ورس وزعفران إلا أن يكون غسيلا .

وقال الطحاوي عن ابن أبي عمران (رأيت يحيى بن معين وهو يتعجب من الحماني كيف يحدث بهذا الحديث فقال له عبد الرحمن بن مهدي هذا عندي ثم وثب من فوره فجاء بأصله فأخرج منه هذا الحديث عن أبي معاوية كما قال الحماني ) ا هـ ، وقال ابن حزم روى بعض الناس في هذا أثرا فإن صح وجب الوقوف عنده ولا نعلمه صحيحا وإلا فلا يجوز لباسه أصلا لأنه قد مسه الزعفران أو الورس ا هـ ، وكأنه أشار إلى هذا الحديث وقال ابن المنذر : اختلفوا في لبس الثوب الذي مسه زعفران أو ورس فغسل وذهب ريحه ونفضه فممن رخص فيه سعيد بن المسيب والحسن والنخعي وروى عن عطاء وطاوس ومجاهد وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان مالك يكره ذلك إلا أن يكون غسل وذهب لونه ا هـ ، .

(السادسة عشرة) مورد النص في اللبس فلو أكل ما فيه زعفران أو غيره من أنواع الطيب قال أصحابنا إن استهلك الطيب فلم يبق له طعم ولا لون ولا ريح لم يحرم بلا خلاف وإن ظهرت هذه الأوصاف حرم بلا خلاف وإن بقيت الرائحة وحدها حرم أيضا لأنه يعد طيبا وإن بقي الطعم وحده فالأظهر التحريم وإن بقي اللون وحده فالأظهر عدم التحريم وقال المالكية لا شيء عليه في أكل الخبيص بالزعفران وقيل إن صبغ الفم فعليه الفدية وما خلط بالطيب من غير طبخ ففي إيجاب الفدية به روايتان وقال الحنفية إن أكل الطيب في طعام [ ص: 51 ] قد طبخ وتغير فلا شيء عليه وإن لم يطبخ وريحه موجود كره له ذلك وقد يقال إن تحريم الأكل حيث حرم مأخوذ من طريق الأولى ؛ لأن الأكل أبلغ في مخالطة الجسد من اللبس .

(السابعة عشرة) ظاهره اختصاص تحريم الطيب بالرجل كالمذكورات قبله لكن جميع العلماء على أن المرأة في ذلك كالرجل وهي مساوية له في سائر محرمات الإحرام إلا في لبس المخيط وتقدم في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران وهذا صريح في تحريم الطيب على النساء وهو واضح من حيث المعنى فإن الحكمة في تحريم الطيب أنه داعية إلى الجماع ولأنه ينافي تذلل الحاج فإن الحاج أشعث أغبر وهذا مشترك بين الرجال والنساء

(الثامنة عشرة) ظاهره إباحة لبس المورس والمزعفر لغير المحرم وهو كذلك للمرأة ويعارضه في المزعفر للرجل ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل قال الشافعي وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وآمره إذا تزعفر أن يغسله ، وحمل الخطابي والبيهقي النهي على ما صبغ من الثياب بعد نسجه فأما ما صبغ ثم نسج فلا يدخل في النهي ، وحكى والدي رحمه الله في شرح الترمذي عن بعضهم أنه حمل النهي عن التزعفر على المحرم قال وفيه بعد وجوز والدي رحمه الله أمرين آخرين:

(أحدهما) أن النهي عن لبس ما مسه الورس والزعفران ليس داخلا في جواب السؤال عما يجتنبه المحرم بل هو كلام منفصل مستقل ثم استبعده وهو حقيق بالاستبعاد ومما رده به ما في الصحيحين عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران قال فقيد ذلك بالمحرم.

(ثانيهما) حمل النهي على لطخ البدن بالزعفران دون لبس الثوب المصبوغ به وأيده بما في سنن النسائي بإسناد صحيح عن أنس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزعفر الرجل جلده .

وفي سنن أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن قيس بن سعد قال أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فوضعنا له ماء يتبرد فاغتسل ثم أتيته بملحفة صفراء فرأيت أثر الورس على عكنه لفظ ابن ماجه .

وروى أبو داود من حديث ابن عمر مرفوعا [ ص: 52 ] كان يصبغ بالصفرة ثيابه كلها حتى عمامته .

ورواه النسائي وفي لفظ له (إن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران) وأصله في الصحيح ولفظه وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها .

(التاسعة عشرة) فيه أنه يحرم على المحرم لبس الخفين إلا إذا لم يجد نعلين فيجوز له حينئذ لبس الخفين بشرط أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي والجمهور وهو رواية عن أحمد والمشهور عنه جواز لبسهما بحالهما عند فقد النعلين ولا يجب قطعهما واستدل له بحديث ابن عباس وجابر من لم يجد نعلين فليلبس خفين وهما في الصحيح وليس فيهما ذكر القطع وزعم أصحابه أن حديث ابن عمر المصرح بقطعهما منسوخ وقالوا قطعهما إضاعة مال وقال عمرو بن دينار : ولا أدري أي الحديثين نسخ الآخر انظروا أيهما قبل.

وقال الجمهور يجب حمل حديث ابن عباس وجابر على حديث ابن عمر لأنهما مطلقان وفي حديث ابن عمر زيادة لم يذكراها يجب الأخذ بها قال الشافعي : ابن عمر وابن عباس كلاهما صادق حافظ وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئا لم يؤده الآخر إما عزب عنه وإما شك فيه فلم يؤد وإما سكت عنه وإما أداه فلم يؤد عنه لبعض هذه المعاني اختلفا ا هـ ، وقولهم إنه إضاعة مال مردود فإن الإضاعة إنما تكون في المنهي عنه وأما ما ورد به الشرع فهو حق يجب الإذعان له والله أعلم.

وحكى الخطابي عن عطاء بن أبي رباح أنه لا يقطعهما لأن في قطعهما إفسادا ثم قال يشبه أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر قال والعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه وقال ابن العربي : أما عطاء فيهم في الفتوى وأما أحمد فعلى صراط مستقيم قال وهذه القولة لا أراها صحيحة فإن حمل المطلق على المقيد أصل أحمد ا هـ ، وفي سنن النسائي بإسناد صحيح في حديث ابن عباس وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين وللشيخ تقي الدين هنا بحث رده الوالد في شرح الترمذي وبسط فيه هذه المسألة.

(الفائدة العشرون): ظاهره أنه إذا فعل ما ذكرناه من لبس الخفين مقطوعين لعدم النعلين لم تكن عليه فدية فإنها لو وجبت لبينها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا موضع بيانها وهو من جهة المعنى واضح فإنه [ ص: 53 ] لم يرتكب محظورا وبهذا قال مالك والشافعي وآخرون وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه الفدية كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه ويفدي.

(الحادية والعشرون) قال الجمهور المراد بالكعبين في هذا الموضع وغيره العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم وقال محمد بن الحسن المراد بالكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك وتبعه على ذلك الحنفية ولا يعرف عند أهل اللغة استعمال الكعب في هذا.

" الثانية والعشرون " فيه أنه لا يجوز لبس الخفين مقطوعين إلا عند فقد النعلين وهو الأصح عند أصحاب الشافعي وبه قال مالك والليث وكذا قال الحنابلة لو لبس واجد النعل خفا مقطوعا تحت الكعب لزمته الفدية ، وذهب بعض الشافعية إلى جواز لبسه مع وجودهما لأنه صار في معناهما وهو قول أبي حنيفة أو بعض أصحابه حكاه ابن عبد البر وابن العربي عن أبي حنيفة وحكاه المحب الطبري عن بعض أصحابه وحكي عن أبي حنيفة نفسه موافقة مالك والجمهور وقال ابن العربي والذي أقول إنه إن كشف الكعب لبسهما إن لم يجد نعلين وإن وجد النعلين لم يجز له لبسهما حتى يكونا كهيئة النعلين لا يستران من ظاهر الرجل شيئا.

(الثانية والعشرون) هذا الحكم خاص بالرجل أما المرأة فلها لبس الخفين مطلقا قال ابن المنذر وبه قال كل من يحفظ عنه من أهل العلم انتهى لكن في سنن أبي داود أن ابن عمر كان يصنع ذلك يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة رضي الله عنها حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين فترك ذلك وقال ابن عبد البر لا يقول به أحد من أهل العلم فيما علمت وهذا إنما كان من ورع ابن عمر وكثرة اتباعه فاستعمل ما حفظ على عمومه حتى بلغه فيه الخصوص .

(الرابعة والعشرون) في حديث ابن عباس في الصحيحين وجابر في صحيح مسلم زيادة ليست في حديث ابن عمر وهي لبس السراويل لمن لم يجد إزارا ولم يبلغ ذلك مالكا فأنكره ففي الموطإ أنه سئل عما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم يجد إزارا فليلبس سراويل فقال مالك لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس [ ص: 54 ] السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين وبه قال أبو حنيفة كما حكاه ابن المنذر والخطابي قال ابن عبد البر وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي وأصحابه والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود إذا لم يجد المحرم إزارا لبس السراويل ولا شيء عليه وحكاه النووي عن الجمهور قال ولا حجة في حديث ابن عمر لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار وذكر في حديثي ابن عباس وجابر حالة العدم فلا منافاة والله أعلم.

وقال الرازي من الحنفية يجوز لبسه وعليه الفدية وأجاب بعض الحنفية عن هذا الحديث بأنه متروك الظاهر ثم حكى عن القدوري أنه قال في التجريد وافقونا على أن السراويل لو كان كبيرا يمكن أن يتزر به من غير فتق لم يجز لبسه لأنه واجد للإزار وكذا لو خاط إزاره سراويل قطعة واحدة لا يجوز لبسه وإن لم يجد إزارا غيره لأنه إزار في نفسه إذا فتقه قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي لا يحسن الاعتراض بهاتين الصورتين لأنه واجد للإزار فيهما وقد علله القدوري بذلك وإنما يجوز لبس السراويل عند عدم وجدان الإزار ، فليس الحديث إذا متروك الظاهر.

(الخامسة والعشرون) إن قلت ما المراد بعدم وجدان الإزار والنعلين ؟ (قلت) قال الرافعي المراد منه أنه لا يقدر على تحصيله إما لفقده في ذلك الموضع أو لعدم بذل المالك إياه أو لعجزه عن الثمن إن باعه أو الأجرة إن آجره قال ولو بيع بغبن أو نسيئة لم يلزمه شراؤه ولو أعير منه وجب قبوله ، ولو وهب لم يجب ثم قال: ذكر هذه الصور القاضي ابن كج وحكاه النووي في شرح المهذب عن أصحابنا.

(السادسة والعشرون) لم يأمر بقطع السراويل عند عدم الإزار كما في الخف وبه قال أحمد وهو الأصح عند أكثر الشافعية وقال إمام الحرمين والغزالي لا يجوز لبس السراويل على حالة إلا إذا لم يتأت فتقه وجعله إزارا فإن تأتى ذلك لم يجز لبسه وإن لبسه لزمته الفدية وقال الخطابي يحكى عن أبي حنيفة أنه قال يشق السراويل ويتزر به قال الخطابي والأصل في المال أن تضييعه محرم والرخصة إذا جاءت في لبس السراويل فظاهرها اللبس [ ص: 55 ] المعتاد وستر العورة واجب فإذا فتق السراويل واتزر به لم تستتر العورة فأما الخف فإنه لا يغطي عورة وإنما هو لباس رفق وزينة فلا يشتبهان قال ومرسل الإذن في لباس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة انتهى.

وحكى الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن غير أحمد من الفقهاء لا يبيح السراويل على هيئته إذا لم يجد الإزار قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وكأنه يشير إلى ما حكي عن أبي حنيفة والإمام والغزالي وإلا فالأكثرون على الجواز والله أعلم.

(السابعة والعشرون) قال النووي في شرح مسلم قال العلماء الحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل ، وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره ، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته. وامتناعه من ارتكاب المحظورات وليتذكر به الموت ولباس الأكفان وليتذكر البعث يوم القيامة حفاة عراة مهطعين إلى الداعي

التالي السابق


الخدمات العلمية