صفحة جزء
باب دخول مكة بغير إحرام

عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال يا رسول الله ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه. قال مالك قال ابن شهاب : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما .

ولمسلم من حديث جابر وعليه عمامة سوداء بغير إحرام


(باب دخول مكة بغير إحرام)

عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال يا رسول الله ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما.

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه الأئمة الستة من طريق جماعة عن مالك وقال الترمذي لا نعرف كبيرا قد رواه غير مالك عن الزهري وقال ابن عبد البر لا يثبت عند أهل العلم بالنقل وفي هذا الحديث إسناد غير حديث مالك وقد رواه عن مالك واحتاج إليه فيه جماعة من الأئمة يطول ذكرهم ومن أجل ما رواه عنه ابن جريج انتهى.

وقال والدي رحمه الله ورد من عدة طرق غير [ ص: 84 ] طريق مالك من رواية ابن أخي الزهري وأبي أويس عبد الله بن عبد الله بن عامر ومعمر والأوزاعي كلهم عن الزهري فرواية ابن أخي الزهري رواها أبو بكر البزار في مسنده ورواية أبي أويس رواها ابن سعد في الطبقات وابن عدي في الكامل في ترجمة أبي أويس ورواية معمر ذكرها ابن عدي في الكامل ورواية الأوزاعي ذكرها المزي في الأطراف قال وقد يثبت ذلك في شرح الترمذي قال وروى ابن مسدي في معجم شيوخه أن أبا بكر بن العربي قال لأبي جعفر بن المرخي حين ذكر أنه لا يعرف إلا من حديث مالك عن الزهري قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك فقالوا له أفدنا هذه الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا، ثم تعقب ابن مسدي هذه الحكاية بأن شيخه فيها وهو أبو العباس العشاب كان متعصبا على ابن العربي لكونه كان متعصبا على ابن حزم فالله أعلم انتهى.

وقال الحافظ أبو در عبد بن أحمد الهروي لم يرو حديث المغفر عن الزهري إلا مالك وحده قال وقد رواه عنه صالح بن أبي الأخضر وليس صالح بذاك، وزاد فيه وعليه عمامة سوداء ا هـ وقال ابن عبد البر رواه روح بن عبادة عن مالك وزاد فيه وطاف وعليه المغفر ولم يقله غيره قال ورواه عنه جعفر بن عبد الله المدني وزاد فيه واستلم الحجر بمحجن وهذا أيضا لم يقله عن مالك غير عبد الله بن جعفر قال وقال بعضهم فيه مغفر من حديد رواه بسر بن عمر عن مالك انتهى.

(الثانية) قوله قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما كذا في الموطإ ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، وفي صحيح البخاري في المغازي عقب هذا الحديث قال مالك ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم يومئذ محرما وهو عند البخاري ثم من رواية يحيى بن قزعة عنه ويشهد له ما في صحيح مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام .

(الثالثة) استدل به على جواز دخول مكة بغير إحرام وذلك من كونه عليه الصلاة والسلام كان مستور الرأس بالمغفر والمحرم يجب عليه كشف رأسه ومن تصريح جابر رضي الله عنه والزهري [ ص: 85 ] ومالك بأنه لم يكن محرما وأبدى الشيخ تقي الدين في شرح العمدة في ستر الرأس احتمالا فقال يحتمل أن يكون لعذر انتهى ويرده تصريح جابر وغيره وهذا الاستدلال في غير موضع الخلاف المشهور من وجهين:

(أحدهما) أنه عليه الصلاة والسلام كان خائفا من القتل متأهبا له ومن كان كذلك فله الدخول بلا إحرام بلا خلاف عندنا ولا عند أحد نعلمه وقد استشكل النووي في شرح المهذب ذلك بأن مذهب الشافعي أن مكة فتحت صلحا خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها فتحت عنوة وحينئذ فلا خوف ثم أجاب عنه بأنه عليه الصلاة والسلام صالح أبا سفيان وكان لا يأمن غدر أهل مكة فدخلها صلحا وهو متأهب للقتال إن غدروا .

(ثانيهما) أن أصحابنا عدوا من خصائصه عليه الصلاة والسلام جواز دخول مكة بغير إحرام مطلقا ذكره ابن القاص وغيره فأما غيره إذا لم يكن خائفا فقال أصحابنا إن لم يكن يتكرر دخوله ففي وجوب الإحرام عليه قولان أصحهما عند أكثرهم أنه لا يجب وقطع به بعضهم فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم ففيه خلاف مرتب وأولى بعدم الوجوب وهو المذهب وقال الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات المتكررة هذا هو المشهور عندهم ولم يوجبه بعضهم وعن أحمد ما يدل عليه وأوجبه المالكية في المشهور عندهم على غير ذوي الحاجات المتكررة ولم أرهم استثنوا الخائف والظاهر أنهم لا ينازعون في استثنائه فهو أولى بعدم الوجوب من ذوي الحاجات المتكررة وذهب أبو مصعب إلى عدم وجوبه وهو رواية ابن وهب عن مالك وروي عنه أيضا مثل رواية غيره من أصحابه حكاهما ابن عبد البر وأوجبه الحنفية مطلقا ولم أرهم استثنوا من ذلك إلا من كان داخل الميقات فلم يوجبوا عليه الإحرام والظاهر أنهم أيضا لا ينازعون في الخائف بل ولا في ذوي الحاجات المتكررة وإن لم يصرحوا باستثنائهم فإنهم عللوا منع الوجوب فيمن هو داخل الميقات بأنه يكثر دخولهم مكة وفي إيجاب الإحرام كل مرة حرج بين فصاروا كأهل مكة حيث يباح لهم الخروج منها ثم دخولها بغير إحرام لكن مقتضى كلام ابن قدامة في المغني منازعتهم في هاتين الصورتين [ ص: 86 ] أيضا وقد تحرر من ذلك أن المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما يستثنى وحكاه ابن عبد البر والقاضي عياض عن أكثر العلماء وعدم الوجوب محكي عن عبد الله بن عمر وبه قال الزهري والحسن البصري وزعم ابن عبد البر انفرادهما بذلك من بين السلف وأن المشهور عن الشافعي الوجوب وليس كما قال وذهب إلى عدم الوجوب أيضا داود وابن حزم وسائر أهل الظاهر .

(الرابعة) المغفر بكسر الميم وإسكان الغين المعجمة وفتح الفاء ويقال له مغفرة بزيادة هاء التأنيث آخره وهو زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة حكاه في الصحاح عن الأصمعي وصدر به صاحب المحكم كلامه ثم قال وقيل هو رفرف البيضة وقيل هو حلق يتقنع به المتسلح وقال في المشارق هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة والخمار.

(الخامسة) يسأل عن الجمع بين هذا الحديث وبين قوله في حديث جابر وعليه عمامة سوداء وقد جمع بينهما القاضي عياض بأن أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث خطب الناس وعليه عمامة سوداء لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة (قلت) ويحتمل أن العمامة السوداء كانت فوق المغفر والأول أظهر في الجمع والله أعلم .

(السادسة) في دخوله عليه الصلاة والسلام مكة بآلة الحرب دليل على جواز القتال بها وذلك فيما إذا التجأ إليها طائفة من الكفار الحربيين أو البغاة أو قطاع الطريق والمشهور عند أصحابنا الجزم بجوازه وحكى القفال والماوردي في ذلك خلافا .

(السابعة) استدل بقتل ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة وبه قال مالك والشافعي وآخرون وحكي عن أبي يوسف وذهب أبو حنيفة إلى منعه حكاه النووي في شرح مسلم وحكى عنه ابن عبد البر تفصيلا وهو أنه إن وجب عليه خارج الحرم فدخله لم يقتل فيه ويقام عليه ما دون القتل، وإن وجب عليه في الحرم بأن قتل فيه أو زنى فيه أقيم عليه في الحرم قال النووي وتأول هذا الحديث على أنه قتله في الساعة التي أبيحت [ ص: 87 ] له وأجاب أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك .

(الثامنة) ابن خطل بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة وآخره لام قال النووي في شرح مسلم واسمه عبد العزى وقال محمد بن إسحاق اسمه عبد الله وقال ابن الكلبي اسمه غالب بن عبد الله بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن إسحاق بن تيم ابن غالب انتهى وروى الدارقطني في سننه تسميته هلالا وقال السهيلي وقد قيل هلال كان أخاه وكان يقال لهما الخطلان انتهى.

قال النووي قال أهل السير وقتله سعيد بن حريث وجزم ابن طاهر في مبهماته بأن الذي قتله أبو برزة الأسلمي وقال ابن إسحاق قتله سعيد بن حريث وأبو برزة الأسلمي اشتراكا في دمه.

(التاسعة) قال النووي قال العلماء إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين انتهى قال ابن عبد البر فهذا القتل قود من دم مسلم وكذا قال الخطابي لم ينفذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام.

(العاشرة) قال النووي فإن قيل ففي الحديث الآخر من دخل المسجد فهو آمن فكيف قتله وهو متعلق بالأستار ؟ فالجواب أنه لم يدخل في الأمان بل استثناه هو وابن أبي سرح والقينتين وأمر بقتله وإن وجد معلقا بأستار الكعبة كما جاء مصرحا به في أحاديث أخر وقيل لأنه ممن لم يف بالشرط بل قاتل بعد ذلك .

(الحادية عشرة) قال ابن عبد البر زعم بعض أصحابنا أن هذا أصل في قتل الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا غلط لأن ابن خطل كان حربيا في دار الحرب لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانه لأهل مكة بل استثناه وقوما معه من ذلك الأمان، وخرج أمره بقتله مع الأمان لأهل مكة مخرجا واحدا في وقت واحد بذلك وردت الآثار وهو معروف عند أهل السير .

(الثانية عشرة) استدل به البخاري وغيره على قتل الأسير صبرا وهو استدلال واضح فالقدرة على ابن خطل صيرته كالأسير في يد الإمام وهو مخير فيه بين أمور منها القتل واستدل به أبو داود على قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام ووجهه أنه لم [ ص: 88 ] ينقل عرض الإسلام على ابن خطل في تلك الحالة.

(الثالثة عشرة) قال السهيلي في الروض عندما قتل النبي صلى الله عليه وسلم ابن خطل قال لا يقتل قرشي صبرا بعد هذا كذلك قال يونس في روايته انتهى وذكر محمد بن طاهر في مبهماته من حديث النهي عن الزبير قال قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رجلا من قريش ثم قال لا يقتل بعد اليوم رجل من قريش صبرا ثم قال قال أبو حاتم الزبيري هذا هو ابن أبي هالة انتهى وفيه نظر فقد روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني هذا الحديث في الحلية وصرح في نفس الإسناد بأنه الزبير بن العوام ولم يقل فيه يوم بدر ولا يستقيم ذلك فقد وقع بعد بدر قتل بعض قريش صبرا والمعروف أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال ذلك يوم الفتح وكذلك رواه مسلم في صحيحه من حديث مطيع بن الأسود قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقول: لا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة وأما كونه قال ذلك عند قتل ابن خطل فغريب والمراد القتل على الردة قاله غير واحد والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية